عادات قديمة كثيرة لا تزال تحافظ على موطئ قدم لها في واقع الجزائريين، من بين تلك العادات "التويزة"، المنتشرة بشكل كبير في الجزائر، وهي فعل تضامني تكافلي يقوم به الجزائريون لمساعدة بعضهم البعض، أو لخدمة المجتمع الذي يسكنونه بدون مقابل.
فنجد "التويزة" في الأفراح والأتراح، وفي الغرس والحصاد، كما نجدها في حملات التبرع لصالح الحالات الإنسانية، لتتحول إلى رافد من روافد التضامن والتكافل بين سكان المجتمع.
بدأت منذ مئات السنين
"التويزة" مصطلح شعبي يأخذ معنى"التكافل" في اللهجة المحلية، ويقصد به تلك العادة المترسخة في جذور ثقافة وتاريخ الجزائريين، والتي ترسم تكافله وتضامنه، حيث يتعاون فيها مجموعة من الناس دورياً، لتقديم خدمة لفرد أو لمجموعة أخرى وبشكل مجاني، ما يؤدي إلى تعزيز الانتماء بينهم.
لا يعرف تاريخٌ محددٌ لنشأة هذه العادة والظاهرة الاجتماعية التي تمتدّ جذورها في الجزائر إلى مئات السنين، فقد انتقلت التويزة من الأجداد إلى الأحفاد كما ينتقل الميراث جيلاً بعد جيل، وأسهمت بشكل كبير في الحفاظ على تماسك المجتمع، وانتشرت في ربوع الجزائر، فلا تكاد تجد منطقة اليوم بالجزائر تغيب فيها عادة التويزة.
التويزة.. تضامن بين السكان وحلّ لمشكلات الحكومة
غالباً ما تقترن هذه العادة باستحضار بطولات الأجداد في التضامن والتلاحم فيما بينهم من أجل استدامة هذه العادة واستمرارها، ورغم التطور الذي يشهده النسيج الاجتماعي الجزائري، وتحوّله تدريجياً من مجتمع منغلق نسبياً إلى منفتح، فإن هذه العادة لا تزال راسخة لدى الجزائريين، بل اتخذت أشكالاً أخرى.
إذ اتجهت جهود الناس إلى التعاون فيما بينهم، لبناء مشاريع متعلقة بالبنية التحتية لتعويض تقاعس أو عجز المسؤولين المحليين عن إنجازها، في ظل سياسة التقشف، وخاصة في مناطق الظل.
ومن ذلك إنجاز سكان قرية بني فرح بولاية جيجل جسراً بطول أربعين متراً وعرض متر واحد وعلوّ 5 أمتار، وبتكلفة تتجاوز 10 آلاف دولار من أموالهم سنة 2019. كما أنشأت مدينة تافيلالت في محافظة غارداية بالكامل من خلال عملية "التويزة"، التي تهدف إلى تقديم حل للأسر التي لا تحصل على سكن.
وقد عرفت "التويزة" على مرّ الزمن تطورات ملحوظة في الشكل والمضمون دون أن تحيد على طابع التآزر والتكافل الاجتماعي. في الماضي كان الجزائريون يعتمدون عليها بشكل أساسي في غرس وجني محاصيلهم الزراعية، فينادي ما يسمى بـ"البراح" وسط المساجد والأسواق بموعد التويزة، ليستجيب كل سكان القرى والمداشر لذلك النداء، بالحضور إلى مكان العمل الذي يستوجب الضمان من أجل إنجازه، وذلك في اليوم والساعة المحددين له.
كما أنها تطورت حالياً لتشمل حملات التبرع للحالات الإنسانية، إذ في الغالب تستنفر مجموعات من النشطاء الاجتماعيين لتنظيم حملات تبرع لفائدة المرضى والمعوزين، أو من أجل مساعدة المقبلين على الزواج، أو بناء البيوت للفقراء والمعدمين، أو المساهمة في أي مشروع يخدم المصلحة العامة للمجتمع.
ويقوم بالتنسيق لهذه العادة أعيان ومشايخ القرى والمداشر، كما تستعملها الجمعيات الخيرية والتضامنية في الحشد لأنشطتها الخيرية.
الكل معني بالتويزة ومن يأبى يُعَاقب!
ولا تقتصر هذه العادة على شريحة واحدة من المجتمع الجزائري، فلكل فرد من أفراد المجتمع مهمة خاصة في التويزة، فالأطفال يكلفون بمهمة إمداد المياه الصالحة للشرب للعمال، بينما تعدّ النساء في البيوت مختلف الوجبات التقليدية التي توزّع على المشاركين. أمّا من يرفض المشاركة، فيعاقب (الحرمان من الاستفادة من خدماتها).
وتنقسم الأنشطة إلى نوعين، منها أنشطة محصورة على الرجال، كبناء المساجد، وحفر الآبار وتنظيفها، وشق الطرقات العامة، إضافة إلى أشغال الحرث والحصاد، فيما تكمن مظاهر التويزة عند النساء في غسل القمح، وجني الزيتون وتفريكه، وغسل الصوف والملابس والفرش والغزل والنسيج، وفتل الكسكس.
وأكثر ما يميّز هذه العادة هو التناغم بين الصوت والعمل، إذ يدأب العاملون على ترديد قصائد وأغانٍ شعبية من الثرات الجزائري بشكل جماعي ومتناسق، لخلق جو تضامني يخفف من ثقل العمل.
ولا تقتصر هذه العادة على الجزائريين فقط، بل تعدت حدودها إلى كامل المغرب العربي، وإن اختلفت تسمياتها فالجوهر والهدف واحد، وهو ترسيم التكافل والتضامن بين أفراد المجتمع.
وتواجه التويزة اليوم جملة من المعوقات التي تقف في طريق استمرارها كالسابق، تُجملها الدكتورة لمياء مرتاض نفوسي، المختصة في علم النفس بجامعة مستغانم في بحثها المعنون بـ"أشكال التضامن الاجتماعي، التويزة نمودجاً" في جملة من الأسباب، أهمها ظهور مجتمع جزائري حديث فرض التخصص في المهن، وكذلك التوسع في المدن، واختفاء القرى والمداشر تدريجياً، وهو ما يسهم في ابتعاد الناس عن بعضهم البعض.