عندما كانت زينب النفزاوية ترفض كل من يتقدَّم لخطبتها، وتقول إنها لن تتزوج إلا من حاكمٍ للبلاد، أو رجلٍ صاحب سلطة، وصفها سكَّان مدينة أغمات بالساحرة والدجالة، ولم يصدِّق كلامها أحد.
لكن بفضل جمالها وحكمتها، وترعرعها داخل عائلةٍ غنيَّة، تمكنت النفزاوية من تطبيق كلامها على أرض الواقع، وتزوجت أكثرَ من حاكم، كان آخرهم حاكم دولة المرابطين الذي لُقِّب بأمير المؤمنين يوسف بن تاشفين، الذي أسس مدينة مراكش بوصيةٍ منها. وكان للنفزاوية دور كبير في حياة زوجها، فقد كانت مستشارته الحكيمة في العديد من المواقف السياسية.
زينب النفزاوية.. حسناء أغمات
استقرَّت زينب النفزاوية في مدينة أغمات (من ضواحي مدينة مراكش الحالية) رفقة والدها إسحاق الهواري، بعد مغادرتهما قبائل نفزاوة الأمازيغية، الموجودة غرب تونس الحالية، حيث أصبح والدها واحداً من أهم تُجَّار القيروان، بسبب وجودهم في مفترق الطرق التجارية، فزادت ثروته وأصبح من بين أغنى التجار وأشهرهم هناك.
كانت زينب النفزاوية واحدةً من أجمل فتيات مدينتها، وأكثرهم علماً وفهماً في أمور السياسة والتجارة. وبسبب جمالها، أصبح الرجال يتنافسون لخطبة النفزاوية، لكنَّها كانت ترفض كل من تقدَّم لطلب يدها، إذ كانت ترى أن جمالها الأخاذ ومكانتها الاجتماعية، يجب أن يجعلاها زوجة لشخص ذي قيمة ونفوذ، وتقول إنها لن تتزوج إلا من حاكمٍ للبلاد.
لكنَّ بسبب أفكارها هذه، تعرَّضت زينب لهجومٍ كبير من سكان أغمات، الذين وصفوها بالمشعوذة، مشيرين إلى أن إصرارها على الزواج من حاكم يكمن في أعمال السحر التي تمارسها.
تزوجت حاكم البلاد وأصبحت مستشارته
كلام زينب النفزاوية تحوَّل إلى حقيقة، فتزوَّجت يوسف بن علي بن عبد الرحمن، شيخ مدينة وريكة، وبعد طلاقها منه عقدت قرانها على أمير أغمات لقوط بن يوسف بن علي المغزاوي، وبعد وفاته تزوجت من أبو بكر اللمتوني، القائد العام للمرابطين.
في الوقت الذي كانت فيه دولة المرابطين، التي كان عمودها الرئيسي في الصحراء، قد بدأت في التوسع شمالاً، وصلت أخبار إلى أغمات بوقوع صراعاتٍ داخلية بين قبائل الصحراء، مما اضطرَّ أبو بكر ترك المدينة، وزينب معها، والعودة من أجل القتال في الجنوب.
زواج النفزاوية من أبو بكر دام ثلاث شهور فقط، إذ ارتأى تطليقها، لأنّه رأى أنّها امرأة جميلة ورقيقة، ولن تتحمَّل حرارة الصحراء وقساوة الحياة هناك، كما أنه لا يعلم ما إذا كان سيعود من حربه سالماً، أو سيقضى عليه هناك.
ترك أبو بكر اللمتوني السلطة لابن عمه القائد الصاعد يوسف بن تاشفين، فيما قال لزينب قبل أن يغادر: "إذا كنتِ راغبةً في أحدٍ من الرجال، فتزوجي ابن عمي يوسف بن تاشفين".
بعد انقضاء العدة، أصبحت زينب النفزاوية زوجة لابن تاشفين، الذي كان آخر أزواجها، وأباً لأبنائها. كان لزينب دور كبير في حياته، فكانت بمثابة مستشار له، إذ كان يأخذ بكلامها في العديد من القرارات، وذلك بسبب الخبرة السياسية التي اكتسبتها من والدها أولاً ومن أزواجها السابقين كذلك.
بعد أن استلم الحكم من ابن عمه أبو بكر، تمكن ابن تاشفين من التوسع بشكل كبير في غرب إفريقيا، فوحّد المغرب وأسّس مدينة مراكش، التي أصبحت عاصمته. وأصبح يطلق عليه لقب "أمير المسلمين"، وهو اللقب الذي وجده اتباعه لائقاً به، لكل ما حققه من أجل دولة المرابطين.
خلال هذه المرحلة، كانت زينب النفزاوية خير سند لزوجها، فلم تقدم له المشورة السياسية فقط، وإنما أعطته من مالها، وشجعته على تأسيس جيشٍ خاصٍ به، إلى أن استقر أمره في الدولة.
بنصيحة منها استمر ابن تاشفين في منصبه
بعد انتهاء حرب الصحراء، وعودة أبو بكر اللمتوني إلى مدينةِ أغمات، أرادت النفزاوية أن يظلّ زوجها متربعاً على عرش السلطة، وألا يسحبها منه ابن عمه بعد أن عاد أدراجه، فقامت بإلهامه بطريقة تعامل تمكنه من البقاء في منصبه.
فقالت له إن ابن عمه لا يحب سفك الدماء، لذلك عليه التحلِّي بالخُلُق التي عهدها عليك من أدبٍ وتواضع، مع إظهار أثر الترفُّع لكي يعلم أنه أصبح في مرتبةٍ مساويةٍ له. ثم نصحته بمجامِلته ببعض الهدايا.
طبَّق ابن تاشفين نصائح زوجته، واستقبل أبو بكر في منتصف الطريق بين أغمات ومراكش، بعرضٍ عسكريٍّ مهيب.
عندها علم أبو بكر اللمتوني أن وضع ابن عمه قد استقر في الدولة، وأصبحت الدولة في عزٍ بعد تقلده الحكم. فقرر عدم إقالته، وإقراره حاكماً لدولة المرابطين، فيما عاد هو إلى الصحراء لاستكمال الدعوة إلى الإسلام.
وبهذا تمكنت النفزاوية من تحقيق كل ما كانت تطمح إليه، وأصبحت زوجة لأمير بلاد المرابطين بلا منازع، وأماً لأولاده.
ألهمت زوجها فأسس مدينة مراكش
بعد أن تمكن يوسف بن تاشفين من التمدد في بلاد المغرب، وتوسيع دولة المرابطين، كان يبحث عن مكان ليكون مقراً لدولته، وفي عام 1070 أسّس مدينة مراكش.
وكانت زينب النفزاوية هي التي ألهمت زوجها من أجل تأسيس مدينة مراكش، وبمشورة منها، قرر ابن تاشفين أن تكون الأراضي التي موضعها وسط المغرب، ويحيط بها المحيط الأطلسي، والأراضي ذات المناخ الصحراوي هي مقراً لدولته، كونها مفترق طرق تجاري، يسهل الوصول إليه، فأصبحت المركز الاقتصادي والثقافي لغرب العالم الإسلامي.
فيما كانت بداية فكرة بناء هذه المدينة على يد زوج النفزاوية السابق أبو بكر اللمتوني، لكنه لم يتم بناؤها، وكان تأسيسها الفعلي في فترة حكم ابن تاشفين.
وجاءت تسمية عاصمة المرابطين بمراكش من أصل كلمة أمازيغية وهي "مر كش"، وتعني "مر بسرعة"، والتي كان يستعملها سكان المدينة آنذاك بشكلٍ كبير، فتم تحويلها ليصبح اسم "مراكش". أصبحت مراكش عاصمة لدولة المرابطين، وبُنِيَ فيها عدة معالم تاريخية لا تزال موجودة إلى يومنا هذا، ولعل أبرزها وأشهرها جامع الكتبية.
والآن تعتبر مدينة مراكش واحدةً من أهم المزارات السياحية في المغرب، والتي تزخر بمعالمها التاريخية، التي تحاكي فترات زمنية كثيرة، أهمها فترة حكم المرابطين. وقد أطلق عليها العديد من الألقاب منها "المدينة الحمراء"، وذلك نسبة للون المنازل الأحمر الموحد في المدينة، أو "مدينة النخيل"، كونها المدينة التي تتوفر على عدد كبير من أشجار النخيل في المغرب.