بعد أن داهم مكتب التحقيقات الفيدرالي في أغسطس/آب 2022 مقر إقامة الرئيس السابق دونالد ترامب، قارن بعض الجمهوريين ما يحدث في الولايات المتحدة بما يحدث في "جمهورية الموز".
وفي أعقاب الانتخابات الأمريكية عام 2021 وهجوم مؤيدي ترامب على مبنى الكابيتول الأمريكي، ظهرت موجة من التغريدات تذكر المصطلح نفسه، واصفة ما يحدث أنه شبيه بواقع "جمهوريات الموز".
وفي أي مكان في العالم عندما يصف شخص ما دولة بأنها "جمهورية موز"، فإنه يسخر من واقع تلك الدولة ويقصد أنها دولة ضعيفة وفقيرة وغير مستقرة سياسياً، ونشأ المصطلح في الأصل لوصف تجارب العديد من البلدان في أمريكا الوسطى.
وكان أول من استخدم مصطلح "جمهورية الموز" هو المؤلف الأمريكي "ويليام سيدني بورتر" في عام 1901، في كتابه "Cabbages and Kings" لوصف دولة هندوراس، بينما كان اقتصادها وشعبها وحكومتها تُستغل من قبل شركة الفواكه المتحدة الأمريكية.
لكن القصة وراء هذا المصطلح أبعد ما تكون عن كونها ساخرة، فبعد أن سيطرت شركات تصدير الموز الأمريكية على اقتصاد تلك البلدان دمرته بالكامل، لتُحكم الشركات الأمريكية سيطرتها.
وتحكمت تلك الشركات في الطبقة السياسية لتلك الدول، ودبرت بمساعدة المخابرات الأمريكية الانقلابات العسكرية للتخلص من أي حكومة وطنية هناك حريصة على مصلحة بلادها، واستبدلتها بقيادات فاسدة.
الشركات الأمريكية و"جمهورية الموز"
في ثمانينيات وتسعينيات القرن التاسع عشر، لم يكن مصطلح "جمهورية الموز" قد ظهر بعد، لكن فاكهة الموز كانت قد بدأت تنتشر في أمريكا وتلاقي اقبالاً كبيرا، فبدأ رجلا الأعمال الأمريكيان "أندرو بريستون" و"ماينور كوبر كيث" في استيراد الموز من دول أمريكا الجنوبية تحت رعاية شركة بوسطن للفواكه.
وقاما بالاستثمار في الحصول على مساحات واسعة من الأراضي في "جامايكا" وتحويلها إلى مزارع موز، وبدآ في تشغيل سفن بخارية خاصة بهما لجلب الموز إلى الأسواق الأمريكية، وقامت الشركة ببناء شبكة من المستودعات المبردة بالثلج، وعربات النقل، والسفن، وتنظيم عملية زراعة واستيراد الموز واحتكارها، بطريقة توازي احتكار النفط والصلب التي ظهرت خلال نفس الحقبة.
مع نمو الطلب في الولايات المتحدة، تواطأ المسؤولون في شركات الفاكهة مع الأنظمة الاستبدادية في ما يسمى اليوم "جمهوريات الموز"، في كوستاريكا وهندوراس وغواتيمالا، من أجل توسيع الإنتاج.
وقدمت تلك الشركات عروض بناء سكة حديد أو في بعض الحالات رشاوى مقابل أرض رخيصة أو مجانية وقوانين تضعها تلك الحكومات من شأنها أن تمكِّنهم من زراعة المزيد من الموز بتكلفة منخفضة.
ولم تكن سكك الحديد لخدمة تلك الدول، ولكن كان يتم بناؤها على طول المناطق التي تسيطر عليها الشركات تلك وتمتلك فيها مزارع الموز، ليسهل عليها عملية نقل الموز وتصديره للولايات المتحدة.
الانقلابات وإنشاء "جمهوريات الموز" بمساعدة المخابرات الأمريكية
في عام 1910، اشترت شركة "Cuyamel Fruit Company" الأمريكية 15000 فدان من الأراضي الزراعية على الساحل الكاريبي لهندوراس، وفي عام 1911 دبر مؤسس الشركة "سام زيموراي"، جنباً إلى جنب مع المرتزق الأمريكي الجنرال "لي كريسماس"، انقلاباً استبدل حكومة هندوراس المنتخبة ديمقراطياً والتي عارضت نفوذ شركات الموز، بحكومة عسكرية برئاسة الجنرال مانويل بونيلا، وهو صديق للشركات الأجنبية.
أدى الانقلاب إلى تجميد الاقتصاد الهندوراسي، وسمح عدم الاستقرار الداخلي في البلاد، للشركات الأجنبية بالتصرف كحكام فعليين للبلاد، وأصبحت شركة الموز هي مصدر الرزق الرئيسي لشعب هندوراس، وتولت السيطرة الكاملة على مرافق النقل والاتصالات في البلاد.
كانت سيطرة الشركة كاملة على البنية التحتية الزراعية، والنقل، والسياسة في هندوراس، حتى أطلق الناس هناك على شركة الفواكه الأمريكية لقب "El Pulpo" أي الأخطبوط.
ولغاية اليوم، لا تزال هندوراس نموذجاً لـ"جمهورية الموز"، ولا يزال الموز جزءاً مهماً من الاقتصاد هناك، ولا يزال العمال يشكون من تعرضهم لسوء المعاملة من قبل أرباب عملهم الأمريكيين.
مثال آخر معروف هو مؤامرة عام 1954 التي دبرتها المخابرات الأمريكية، بالنيابة عن شركة الفواكه المتحدة ضد الرئيس الغواتيمالي "جاكوبو أربينز"، وأنهى هذا الانقلاب الفترة الحقيقية الأولى للديمقراطية التي عرفتها غواتيمالا.
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة كانت في البداية داعمة للرئيس "أربينز"، وشعرت وزارة الخارجية أن تقوية "أربينز" من خلال الجيش المدرب والمسلح من قبل الولايات المتحدة، سيجعله أحد حلفائها.
إلا أن العلاقة توترت عندما حاول أربينز إجراء سلسلة من الإصلاحات على قانون تملك الأراضي الزراعية، الأمر الذي هدد نفوذ "شركة الفواكه المتحدة" الأمريكية والتي كانت تسيطر على مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية، فدبرت المخابرات الأمريكية- بتحريض ومساهمة من شركة الفواكه- انقلاباً عسكرياً في غواتيمالا.
أجبر انقلاب عام 1954 أربينز على التنحي عن السلطة، مما سمح بتولي المجالس العسكرية الحكم، لتدخل البلاد بعدها دوامة الحكومات العسكرية التي دمرت الاقتصاد لأكثر من نصف قرن.
وظهرت التفاصيل السرية لتورط وكالة المخابرات المركزية في الإطاحة بالزعيم الغواتيمالي، والتي تضمنت تجهيز المتمردين والقوات شبه العسكرية، بينما حاصرت البحرية الأمريكية الساحل الغواتيمالي، في عام بعد رفع السرية عن تلك العملية عام 1999.