قبل قرنين من الزمن خرجت شخصية مثيرة من بلدة تلكيف العراقية في محافظة نينوى – شمال غرب العراق، استطاعت تأريخ أحوال مجتمعها وما شهدته خلال فترة ترحالها، بصيغةٍ سلِسَة عصرية، تضع القارئ في عين الحدث، رغم مرور عشرات السنين عليه.
بطلة قصتنا هي سيدة عراقية تُدعى ماري تيريزا أسمر؛ ليس اسمها مألوفاً ولم يسمع عنها الكثير من الناس في يومنا هذا، لكن أسمر -المعروفة لدى الغرب باسم "الأميرة البابلية"- أرَّخت حياتها باللغة الإنجليزية عام 1844 في كتابٍ يوثق تفاصيل رحلاتها، اعتزّت من خلاله بأصلها وتاريخ بلادها العريق، ودوّنت فيه ما هو كفيل بنقل صورة عن رحلتها في الحياة، عبر الدول التي سافرت إليها.
في كتابها "مذكرات أميرة بابلية"، تروي الباحثة المؤرخة والأديبة البريطانية (من أصولٍ عراقية) أمل بورتر كيف كان لماري تيريزا أسمر أثرٌ كبير وسط أقرانها في القرن التاسع عشر، وتستشهد بإحدى الجامعات الأمريكية التي صنّفتها كواحدة من عظماء شخصيات منتصف القرن الـ19 وقتئذٍ.
لكن أسمر لم تُعامَل كعظيمة في ذلك الوقت، وهذا ما وصفته بورتر في مقدّمة كتابها بقولها: "ثمة شخوص في التاريخ العراقي نُسيت، أو فُرض عليها النسيان، والتجاهل والتهميش".
من أصلٍ هندي.. من هي ماري تيريزا أسمر؟
وُلدت ماري تيريزا أسمر عام 1904، بين 18 أخ وأخت -مات منهم 9- لعائلةٍ لها مكانة اجتماعية واقتصادية بين الأهالي. وتصف أسمر أصلها في كتابها بقولها إنها تنحدر من عائلة من الشرق تعود أصولها إلى "البراهمة"، الذين اعتنقوا المسيحية على نهج كنيسة ترافانكور، التي أسّسها توما (وهو رسول النبي عيسى في الهند) ثم رحلوا إلى بلاد فارس واستقرّوا في بغداد.
كان والدها من أثرياء بغداد، ملتزماً بتعاليم الكنيسة الكلدانية -التي تتشارك مع الكنيسة في روما- ويُساهم في نشر الديانة المسيحية. وتقول ماري تيريزا إنه كان لا يتأخر على مساعدة أي شخص من أي طائفة دينية أخرى، سواء كان مسلماً أو مسيحياً أو يهودياً.
تذكر لنا تيريزا أن الطاعون انتشر في بغداد عام 1904 وقتل الكثير من أقاربها، كما قتل الكثير من الناس، ليقرّر والدها الانتقال بعائلتها إلى منزلٍ آخر له في الريف قرب خرائب نينوى، حيث وُلدت هي في العام نفسه.
وفي مقدّمة وصفها لخلفية عائلتها، حدثتنا أسمر عن انتقادها للطرق الشعبية في العلاج خلال تلك الفترة؛ وصفت كيف تعرّض خالها للدغة ثعبان، وكيف عانى الكثير قبل وفاته نتيجة ممارسة نوع من العلاج مأخوذ عن حضارة ميزوبوتاميا القديمة "بلاد الرافدين أو ما بين النهرين".
وقالت في هذا الشرح إن هذا العلاج يقتضي أن يُمنع المُصاب من النوم لمدة خمسة أيام وذلك بضرب الطبول، والوخز الشديد بالإبر إذا ظهرت أعراض الدوار. وخلال كل تلك الأيام كان يُسقى الحليب فقط إلى أن يبدأ بالتقيؤ، وبذلك يتخلص من سُمّ الأفعى، "لهذا النوع من التعذيب تعرّض خالي لمدة خمسة أيام ومن دون فائدة، إذا في النهاية كان السُّمّ قد سرى في بدنه، ولم يفلح أي إنسان بإزالة هذا السُّمّ القاتل".
مجتمع بغداد وتأثيره في شخصية أسمر
بعد مرور أربع سنوات، وانتهاء الوباء عادت الأسرة إلى بغداد، وقد نوّهت أسمر هنا عن الخلاف بين الأديان والطوائف ووجود ثقافة عدم تقبّل الآخر في بغداد، لدى الكثير من الناس. لكنها كانت تمتدح الثقافة الأوروبية بالمقابل.
لم تُخفِ تباهيها بالعيش في بغداد، حيث المرح والفرح والعادات الشرقية. تحدثت عن طريقة اللبس والعيش لدى الأغنياء والفقراء، كما قدّمت لنا وصفاً نعرفه عن بغداد اليوم، وهو أنها مشهورة ببهجتها ومرحها، "أهلها يهيئون أربع وجبات طعام في اليوم، يبدأون يومهم بشرب القهوة السادة، ثم تليها النرجيلة".
وتتابع أسمر وصفها، قائلة: "الفطور يبدأ الساعة التاسعة صباحاً بوجبة لذيذة من القيمر (القشطة) والتمر المطبوخ بالزبدة.. وجبة الغذاء تبدأ الساحة الواحدة بعد الظهر"، كما شرحت اللباس الذي يرتديه نساء بغداد، وعاداتهم اليومية وتعايشهم مع الحر فترة الصيف.
تُدين ماري تيريزا أسمر لبلدة تلكيف بالكثير؛ لم تعش فيها فقط، بل كان لها أثرٌ في شخصيتها، وتقول عن ذلك الوقت إنه "لم يكن هناك شخص أُمّي لا يستطيع القراءة والكتابة، فالتعليم كان سمة أهل المنطقة، فيما لم تتسم البلدة بالتعصّب الديني"، وفقاً لأسمر.
إلا أنها وصفت أيضاً الوضع الاقتصادي السيئ، والخلافات المذهبية في عموم العراق آنذاك، وكيف كانت تؤثر على الأمن والأمان في المجتمع العراقي الذي اشتهر أيضاً بوجود الجماعات المسلحة التي تعيش على النهب، هذه العوامل بالضرورة أثرت في شخصيتها وشخصية كل من عاصر تلك الفترة.
بداية التغيير في حياة ماري تيريزا أسمر
كان أول تغيير حقيقي في حياة الكاتبة أسمر، بعد أن ذهبت في رحلةٍ إلى فارس مع والدها حين كان عمرها أحد عشر عاماً، لتبدأ من بعدها دراستها الدينية، والتعمّق أكثر بالمسيحية؛ حتى أنها رفضت الزواج، وقررت البقاء في الكنيسة، لتتفرّغ إلى العبادة والتعمق في ديانتها.
أثناء إقامتها في أحد الأديرة بالقرب من نينوى، ظهرت موهبتها في الكتابة؛ فبدأت تأليف الكتب الدينية، لتقرّر من بعدها تأسيس مدرسة تعليمية للنساء، مطالبةً بالمساواة بين الجنسين في الحق بالتعليم. وبالفعل التحق بها الكثير من النساء، وبدأن يتعلّمن اللغات الفارسية والكردية والتركية والكلدانية.
ذاع سيط أسمر في الموصل، وأصبح النساء من الطبقات العليا والسياسية في المجتمع يقمن بزيارتها، من بينهن أخت الباشا العثماني حاكم الموصل آنذاك، الذي وصفته أسمر بأنه لم يكن متساهلاً مع المسيحيين، إلا أنها استطاعت تكوين صداقة معها وزيارتها بقصرها بشكلٍ سرّي، من دون معرفة الباشا.
وفاة والدها كان له الأثر الكبير على حياتها. فقد توفي بعد تعذيبه في السجن، بتهمة محاولة تحويل العائلات المُسلمة إلى المسيحية -وفقاً لروايتها- فأوصاها بضرورة السفر والابتعاد عن المنطقة، لتموت والدتها بعد فترة.
تأسيس مركز تعليمي في بغداد
بعد مغادرتها تلكيف في أوائل القرن التاسع عشر، ووصولها بغداد، نجحت ماري تيريزا بإقناع أصدقائها الأثرياء على فتح مركزٍ تعليمي للسيدات، خصوصاً أنها تُتقن أكثر من 7 لغات، منها: اللاتينية، والإيطالية، والفرنسية، والهندوستانية، والتركية، والسريانية، والكردية، إضافةً إلى العربية.
فبدأت بتعليم النساء القراءة والكتابة وبعض المهن الحرفية، إضافة إلى الديانة المسيحية الكاثوليكية، إلا أن المركز أُغلق نتيجةً لتدخل جماعة من المبشّرين الأوروبيين الذين يسكنون بغداد.
وعن هذه الحادثة علّقت أسمر قائلة: "إن الغرب يتصرّف بشكلٍ غير مسيحي أبداً حيال الشعوب الشرقية؛ لو حدث هذا التصرف من قِبل مُسلم، فإننا نفهم البواعث، ولكن من قِبل الغرب -الذي يُدين للمسيحية التي تروج للسلام والمحبة- شيء لا نفهمه، سوى أن هناك بشراً يريدون أن ينتفعوا من وجودهم في الشرق ليراكموا ثرواتهم".
استنجدت بعد تلك الحادثة بشيخٍ بدوي كان صديقاً لوالدها، يُقيم بين بغداد وبابل، وقد استقبلها وأكرمها وأثنت عليه، وقارنت أدبه ولطف استقباله مع الأوروبيين. أكدت أسمر أنه يتفوق عليهم بأدبه البدوي، وأن البدو "لا يفرّقون بين شخصٍ وآخر بسبب دين أو معتقد"، وفضّلتهم على جميع من عرفتهم.
بعد إقامتها مع البدو، الذين أسهبت في وصف طقوسهم وعاداتهم -كما فعلت في وصف أي مكانٍ زارته بشكل دقيق ومُفصّل- توجهت أسمر إلى الشام ومن ثم فلسطين، كما أقامت لفترةٍ في دمشق حيث كوّنت علاقات اجتماعية، قبل أن تتوجه إلى لبنان برفقة أحد المطارنة الذي تعرّفت إليه أثناء مغادرتها بغداد.
لقاء ماري تيريزا أسمر بالأمير بشير الشهابي
أقامت في أحد الأديرة في جبال لبنان، بين الراهبات اللواتي وهبن حياتهنّ إلى الكنيسة؛ أبدت إعجابها بصرامتهن وتقوى إيمانهن، غير أنها ذكرت بعض المواقف التي أثرت في شخصيتها نتيجة صدمتها ببعض المتديّنين الذين قابلتهم في أماكن أخرى، والذين لا همّ لهم سوى جمع الأموال عن طريق الدين.
قررت أسمر أن تغادر إلى بيروت بصحبة مطرانٍ أتى معها من بغداد، حاملةً معها رسالة من رئيسة دير في جبال لبنان إلى أميرة شهابية، إحدى أقارب الأمير بشير الشهابي في بيروت، وهو أحد أمراء جبل لبنان من آل شهاب، الذين حكموا المنطقة من سنة 1697 حتى 1842. يُعتبر الشهابي أحد أشهر الأمراء في تاريخ لبنان وبلاد الشام عموماً، وأحد أبرز ولاة الشرق العربي في العصور الحديثة، كما أن هناك من اختلف حول دينه الحقيقي، بين مسلم أو مسيحي أو درزي، وقيل أن نسب عائلته يتصل بقريش.
وتذكر أسمر لقائها بالأمير الشهابي، بقولها إنها عندما أقامت في قصر الأمير حيدر الشهابي، أتى لزيارتها الأمير بشير. وصفته بأنه يبدو بالسبعين من عمره، ذو لحية بيضاء طويلة تصل لحزامه، بنيته النحيفة تنبئ عن رجلٍ تجاوز الستين، ولكن خطواته كانت ثابتة وقامته مستقيمة كالشباب.
في عام 1825، ذكرت أنها حضرت حفل زفاف أقامته زوجة نائب والي عكا لشقيقتها في لبنان، والتقت هناك بزوجات الطبقة الحاكمة والثرية في المجتمع، ثم ذكرت أنها تلقت دعوة من ابنة زوجة الأمير بشير، التي بدورها أوصت زوج أمها الأمير بشير بأن يهتم بماري تيريزا أسمر، ثم تسلّمها شيخ قرية ماروني.
بدأت رحلة أسمر نحو القدس، حاملة رسالة من الأميرة إلى الأمير عبدالله الشهابي، حاكم كسروان، وهي إحدى أقضية محافظة جبل لبنان الستة. تقع في غرب وسط لبنان، وكما العادة في مدونات أسمر، وصفت كل ما رأته في لبنان، من مظاهر حضارية ومن طريقة عيش الناس والأمراء.
وفي طريقها التقت بعدد من الشخصيات المهمة في لبنان، منها أمراء بعض القرى الدرزية؛ ثم رحلت عبر باخرة متجهة إلى حيفا، متنكرة بزي رجل وأطلقت على نفسها اسم "الخواجة أمين"، حتى تتنقل بحرية بين الحجاج المسيحيين. ثم قامت بزيارة القنصل الروسي في حيفا الذي كان يسهّل رحلة الحجاج إلى القدس، كما أنها وصفت الدمار الذي كان قد حلّ بالمدينة نتيجة حصار أحمد باشا الجزار في الأعوام السابقة.
توجهت إلى رام الله في الضفة الغربية بفلسطين، لتقضي ليلتها في كنيسة مار نقديموس، ثم أرخت رحلتها أثناء الوصول إلى كنيسة القيامة في القدس. وفي تلك الأثناء ضرب وباء مدينة القدس، فاضطرت أسمر للسفر إلى الإسكندرية في مصر نهاية عام 1825.
عملها في كنف الأمير بشير
من الإسكندرية ذهبت إلى القاهرة ومنها إلى جبل سيناء، ثم إلى مدينة إزمير التركية، وإسطنبول، قبل أن تعود مرة أخرى للقدس وتزور الأردن. بعد عودتها إلى لبنان، انتهى بها المطاف لتكون تحت حماية الأمير بشير الشهابي، الذي عرض عليها أن تتخلى عن مشروع الرهبنة وتعمل مساعدةً لإحدى زوجاته، التي كانت تحوّلت للمسيحية بحسب أسمر، وهذا ما وافقت عليه.
أصبح لها مكتب وأصبحت المرافقة الأولى للأميرة كهية الشهابي، مع شقةٍ خاصة في قسم "الحريم". فصارت تلتقي بسيدات المجتمع الدرزيات والمارونيات وغيرهن، وأقامت في الوقت نفسه أنشطة ثقافية، كعرض المسرحيات.
كانت النزعة الدينية تسيطر على شخصية أسمر، فلم تكن معنية بمصادقة المسلمين، لأنها تعتبر أنهم قتلوا والدها وتسبّبوا بمأساتها، متبنيةً فكرة أن كل من هو على دين محمد "محمدي" لا بدّ أن يكون عدواً للمرأة وعدواً لمن هو على غير دينهم.
كما بالغت في وصف صورة رجال السلطة المسلمين وزوجاتهم، مُشيرةً إلى الظلم وحب الحياة فاحشة الثراء على حساب الرعية، معمّمةً ذلك على المسلمين. وهذا ما لم يتفق مع الكثير من المصادر، التي أرخت حكم المسلمين منذ بدايتهم.
خلال عملها في كنف الأمير، تعرفت أسمر على الليدي هستر ستانهوب، وتفاخرت بمعرفتها وصداقتها، التي وصفتها كتب التاريخ بأنها جاسوسة إنجليزية كان لها دورها الرئيسي في إضرام ثورة الدروز على حكم محمد علي في الشام، كما أسست أسمر علاقات وثيقة مع الدروز، الذين قالت عنهم أنه من الصعب أن يكونوا أصدقاء مع غير أبناء ملتهم.
النهاية في أوروبا
مع بداية عصور النهضة العلمية والتطور التكنولوجي، قرّرت أسمر السفر إلى أوروبا؛ ورغم أنه حاول إقناعها بالبقاء في لبنان، فإن الأمير بشير الشهابي ساعدها على الرحيل. وفي العام 1832 سافرت إلى قبرص متوجهة لزيارة البابا.
في عام 1837، تركت روما متجهة إلى باريس، وهناك تعرفت على علية القوم، بحكم توصيات الأمير بشير، الذي كان يصرف عليها ببذخ، إلى أن تمت تنحيته عام 1841.
قبل سفرها من باريس، تعرفت هناك على شخصية سياسية مهمة، منها رئيس الوزراء الفرنسي آنذاك، ثم سافرت بعدها إلى لندن، حيث تعرفت على الإيرل مونستر، رئيس الجمعية الآسيوية في لندن، وأصبحت تعمل في جمعيته.
وبعد أن عاشت في أوروبا لأكثر من 10 سنوات قالت إنها توصلت لقناعة بأنها "تفضل بساطة الإنسان الشرقي على مكر الإنسان الأوروبي"، وتحدثت عن بعض المواقف التي تعرضت فيها إلى الاستغلال من أصدقائها الأوروبيين، وبقيت تتنقل في أوروبا، حيث نهايتها، إذ تقول الكاتبة أمل بورتر إنها توفيت عام 1854 في فرنسا على أغلب الظن.