"الملك العادل الكبير الثاغر المرابط المؤيد المنصور يمين الدولة أبو القاسم محمود بن سبكتكين، صاحب بلاد غزنة، وملك تلك الممالك الكبار، وفاتح أكثر بلاد الهند قهراً، وكاسر أصنامهم وندودهم وأوثانهم وهنودهم وسلطانهم الأعظم قهراً".
بهذه الكلمات، وصف المؤرخ العربي الشهير ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية"، شخصية السلطان محمود الغزنوي، حاكم الدولة الغزنوية، الذي لقبه الخليفة العباسي القادر بالله بلقب "يمين الدولة"، أشهر حكام الدولة الغزنوية (في آسيا الوسطى وشمال الهند وخراسان).
فقد عاش الغزنوي حياته فارساً على ظهر خيله، موجهاً سيفه وجنوده نحو بلاد الهند، التي شن عليها 17 حملة خلال 27 عاماً، لتوسيع رقعة حكم المسلمين، وضمها لسلطانه وسلطان الدولة العباسية.
محمود الغزنوي.. فارس منذ طفولته
عرَّفه المؤرخ شمس الدين الذهبي في كتابه "سير أعلام النبلاء"، بأنه الملك يمين الدولة، فاتح الهند، أبو القاسم، محمود بن سيد الأمراء ناصر الدولة سبكتكين، التركي، صاحب خراسان والهند وغير ذلك.
هو محمود بن سبكتكين، ويُعرف بالغزنوي نسبة إلى غزنة (غربي كابول الأفغانية)، المدينة التي وُلد فيها على أغلب الظن بين عامي 970-971م، وقد أجمعت المصادر بأن أباه كان قد بيع عبداً في طفولته، واشتراه أمراء السامانيين في نيسابور في خراسان الإيرانية، وقد اختلفت المصادر بأن أصل سبكتكين تركي أو من العائلات التركمانية، أم أنه فارسي الأصل، وقد أصبح أميراً لغزنة عام 976-977م.
حرص والده على أن يعلمه منذ طفولته القراءة والكتابة، كما حرص على تحفيظه القرآن الكريم وتعليمه الفروسية والقتال، لكي ينشأ نشأة فارس ملم بفنون القتال، وقادر على القيام بمهام السياسة، نظراً لبيئته المحيطة. وفقاً للعتبي في كتابه "تاريخ العتبي "تاريخ الدولة الغزنوية وأخبار السلطان محمود الغزنوي".
قصة صعود الغزنوي إلى السلطة
صعد محمود الغزنوي إلى واجهة الساحة السياسية في وقت مبكر من حياته، بعد أن ضم أبيه ولايتي بست وقصدار إلى إمارته، عام 976-977م وفقاً لابن الأثير في كتابه "الكامل"، حيث توجهت أنظار سبكتكين نحو الهند من أجل نشر الإسلام، وضم الأراضي الهندية إلى سلطانه.
وكانت أولى حروب الأمير محمود مع قادة الهنود، هي تلك التي وقعت في غزنة عام 979م، بعد أن هاجمها الملك جيبال القادم من الهند بهدف الانتقام ومحاولة استرداد الأراضي التي سيطر عليها الأمير سبكتكين، فخرج الأمير الغزنوي ومعه جيشه وابنه محمود الذي أشركه في قيادة الجيش، ودارت معركة ضارية استمرت لعدة أيام، انهزم فيها جيش الملك جيبال، وبزغ فيها نجم محمود الغزنوي.
حاول الملك جيبال أن يجر جيش المسلمين نحو توقيع اتفاقية صلح وهدنة واعتراف بسيادة المسلمين على المناطق التي ضمت من الهند، إلا أن الغزنوي أشار على والده بعدم القبول، حتى يتسنى له أن يمضي قدماً في الأراضي الهندية، ويفتح مناطق أخرى لينشر الإسلام فيها، وليكسر شوكة جيبال ويمنعه من التفكير في الحرب مرة أخرى، وفقاً لكتاب "السلطان محمود الغزنوي: سيرته ودوره السياسي والعسكري في خراسان وشبه القارة الهندية 381-421 هـ" للمؤرخ والباحث عبد الستار مطلك درويش.
عاد الملك جيبال لاستفزاز الغزنويين، حتى وافقوا على توقيع اتفاقية صلح معه مقابل الحصول على ألف ألف درهم جزية، وخمسون رأساً من الفيلة والتنازل عن عدة أراضي، ولكنه نكث في العهد وجمع جيشه لمقاتلة الغزنويين مرة أخرى، إلا أن جيش المسلمين استبسل وانتصر في معركة قُتل فيها الملك جيبال، وأذعن حلفاؤه للمسلمين، وكان على رأسهم قبائل الأفغان.
ونتيجة لهذا الإذعان من القبائل المجاورة، أُسندت إلى الأمير محمود أول ولاية في حياته السياسية، وكانت ولاية داور قرب أفغانستان، وبدأت كلمة الغزنويين تصبح مسموعة في تلك المناطق التي يحكمونها، وأصبح لهم هيبة داخل الدولة الإسلامية ككل، التي كان رأسها الخليفة العباسي.
وقد كانت أولى تدخلات محمود الغزنوي في الساحة السياسية الداخلية، عندما طلب نوح بن منصور الساماني، وهو أمير من الدولة السامانية التي كانت تحكم ما وراء النهر، من سبكتكين وابنه محمود مساعدته لقمع تمرد داخلي في إيران، وقد نجحا في ذلك.
بعد هذا النجاح، استقر محمود الغزنوي في خراسان يحكمها باسم بالسامانيين عام 995م، وتم منحه لقب "سيف الدولة" من الأمير نوح، الذي ضرب اسم محمود في العملة تكريماً له.
خلاف الإخوة حول الحكم
بعدها بعامين، توفي الأمير سبكتكين عام 997م، ليتولى الإمارة بعده ابنه الأصغر الأمير إسماعيل بعهد منه، فأدى ذلك إلى نشوب خلاف بين الإخوة حول أحقية الإمارة، بسبب أن أم إسماعيل تركية الأصل، وكان كبراء الجيش من المقربين لها.
ولم يكن الأمير إسماعيل على دراية وخبرة كافية بتسيير الحكم، والسيطرة على الجيش؛ فاستغل الجند الفرصة واستضعفوا أميرهم الجديد وطالبوه برواتب أعلى، حتى أنفق خزائن الدولة على هذه المرتبات.
حاول محمود أن يتحاور مع أخيه ويذكره بأحقيته وجدارته بالحكم، واعداً إياه بأنه سيشركه حكم البلاد، وخيره في ولاية العديد من المدن المهمة، إلا أن إسماعيل رفض وقرر محمود أن يأخذ الحكم بالقوة، وعند وصوله بجيشه إلى غزنة بعث رسالة أخيرة لأخيه يدعوه فيها إلى التحاور، فوافق، لكنه دبر مع قادة جيشه مكيدة لقتل محمود.
ففي بداية عام 998، التقى جيش الإخوة عند غزنة ودارت معركة انتصر فيها محمود الغزنوي على شقيقه، وأمر محمود بإكرام أخيه والعفو عنه، وبدأ ينظم الأمور الداخلية لمناطق حكمه، إلا أن الأمير إسماعيل حاول قتله مرة أخرى، فعفى عنه محمود هذه المرة أيضاً وأرسله إلى إقامة جبرية فيها جميع سبل الراحة، وراتباً يعتاش منه، وفقاً للعتبي.
وبعد أن استقرت أمور الأمير محمود الداخلية، علم بأن السامانيين أخذوا منه ولاية نيسابور بسبب انشغاله بحربه مع أخيه، فثار غضب الغزنوي، واندلعت حروب داخلية بين السامانيين وحلفائهم ضد الغزنوي، الذي أعلن انتهاء دولة السامانيين عام 998م، وأقام دولته مكانهم في ما وراء النهر وخراسان.
وهنا أسمى محمود نفسه السلطان، ورفع شعار الطاعة للخليفة العباسي، القادر بالله، لإضفاء نوع من الشرعية على حكمه للمشرق الإسلامي، وسرعان ما أطلق عليه الخليفة لقب "يمين الدولة، وأمين الملة أبي القاسم محمود ولي أمير المؤمنين" وذلك بعد أن تمكن من هزيمة السامانيين الذين لم يكونوا معترفين بشرعية خلافة القادر بالله.
طاعة ولي الأمر.. علاقة الغزنوي مع العباسيين
كانت الخلافة العباسية في بغداد في تلك الفترة تعاني من الوهن وكثرة الانقسامات، وظهور الدويلات التي تكتفي بالدعاء فقط للخليفة الذي كان يشكل السلطة الروحية والقوة الرمزية، وكان الجميع يسعى لإرضاء الخليفة فقط لنيل الشرعية في حكم إمارته، وكان لدى البعض منهم أطماعاً في السيطرة حتى على قرار الخليفة وأماكن نفوذه الفعلية.
أما محمود الغزنوي، فقد أخبرتنا كتب التاريخ بأن علاقته امتازت منذ بدايتها بالود مع دار الخلافة في بغداد، فأمر الغزنوي أن يدعى للخليفة في جميع المآذن، وأن يصك اسمه على العملة، كما أنه كان ذراعاً حقيقية للخلافة من مبدأ الطاعة لولي الأمر، بل وصار ممثلاً عن الخليفة العباسي يفتح البلاد باسمه ويضرب أعداءه.
وكان السلطان محمود حريصاً على مراسلة الخليفة باستمرار، يطلعه على جميع التفاصيل، وينبأه بأخبار فتوحاته الجديدة من البلدان، ليثني عليه الخليفة ويبارك له من أجل نشر الإسلام وتوسيع رقعة الحكم وإعلاء هيبة الخلافة، وفي عام 1011 أرسل للخليفة العباسي خطاباً قال فيه أنه فتح الهند وذكر له ما لاقاه من صعوبات.
وقد ذكر لنا عبد الستار درويش محاولة الفاطميين في مصر استمالة السلطان محمود إلى صفهم أكثر من مرة، من أجل إضعاف الخلافة العباسية، ومن أجل مساعدتهم في نشر عقيدتهم الدينية، إلا أنه رفض وكان يعلن دوماً ولاءه وطاعته للخليفة، مصادقاً من صادقه، معادياً من عاداه.
27 عاماً من الفتوحات في الهند
منذ توليه الحكم، عزم السلطان محمود الغزنوي على التوغل أكثر في بلاد الهند، قائداً لجيشه الضخم باسم الفتوحات الإسلامية، ليقمع الوثنية وينشر الإسلام، مكملاً لمسيرة والده الذي كان هدفه نشر الإسلام في عموم الهند.
وقد ظلت حملاته على الهند متعاقبة سنة بعد أخرى على مدار 27 عاماً، وفقاً لكتاب "الجماهر في معرفة الجواهر" للبيروني، حيث كان لفتوحاته المتتالية الأثر الكبير في نشر الإسلام في هذه البلاد، وأمر ببناء المساجد مكان معابد الأصنام في كل مكان يفتحه، منطلقاً من مدينة غزنة الجبلية المنيعة القريبة من الهند.
وقد استغل السلطان محمود بمهارة الظروف الداخلية في الهند، التي كانت تعاني من انقسامات أمراء الهندوس فيما بينهم على الحكم، مما سهلت المهمة أمام جيوش المسلمين في التوغل داخل بلادهم، ويذكر العتبي في هذه المناسبة أن السلطان كان يرسل لأمراء وملوك الهندوس قبل تحركه ويخيرهم ما بين الدخول في الإسلام، أو دفع الجزية أو الحرب.
وقد كانت أول حملاته على الهند عام 1001، عندما قاد جيش قوامه 15 ألف مقاتل، والتقى عند مدينة بيشاور(في باكستان) بجيش ملك الهند الضخم، والذي كان قوامه 12 ألف فارس و30 ألف رجل و300 فيل، في معركة انتصر فيها المسلمون وقتلوا 5 آلاف من الهنود وأسروا ملكهم.
وفي تلك السنة استطاع فتح بيشاور وويهند، لتتوالى بعدها الحملات والفتوحات الإسلامية تحت قيادة السلطان محمود الذي أطلق عليه لقب "الغازي"، حيث يعد هذا اللقب من الألقاب الدينية التي تطلق على من يحارب في سبيل الله.
فتوحات الهند وما حولها
ويعد فتح الملتان (مدينة باكستانية تقع في الجزء الجنوبي من محافظة البنجاب)عام 1005 من أشهر فتوحات الغازي محمود الغزنوي، حيث توجه في هذا العام للقضاء على صاحبها أبي الفتوح داود بن نصر الباطني، الذي دعا إلى مذهب الباطنية واتهم بالإلحاد، وآمن به أفراد رعيته.
وأرسل محمود رسالةً إلى أندبال ملك دولةٍ تقع بين الدولة الغزنوية والملتان يطلب منه فيها الإذن بعبور بلاده إلى الملتان لكن أندبال لم يجبه، فقرَّر أن يجمع بين الغزوتين، وغزا بلاد أندبال ولاحقه من بلدٍ إلى بلدٍ حتى وصل إلى حدود كشمير.
وعندما سمع أبو الفتوح بالأمر أدركَ أنه لا يستطيع الوقوف في وجه محمود وقتاله، ففر من بلاده ثم وصل السلطان محمود إلى المدينة فقاتله أهلها فحاصرهم حتى فتحوا له المدينة من تلقاء أنفسهم، ثم غَرَّمهم بعشرين ألف درهمٍ سنوياً عقوبةً للعصيان.
وتعد هذه الحملة من أهم حملاته وذلك كونه وضع حداً لأهل الباطنية الذين كانوا يدينون بالطاعة للدولة الفاطمية، وكونها نصراً كبيراً للخلافة العباسية ضد أعدائها.
وقد تمكن السلطان محمود من توسيع رقعة ملكه في الشرق والغرب، نحو السند والبنجاب، وضم إلى نطاق سيطرته مناطق واسعة شملت سيستان وخوارزم وغور وكارجيستان وكشمير وغيرها من المناطق طيلة فترة فتوحاته.لعل الدولة الغزنوية كانت سبّاقة إلى نشر الإسلام في الهند بقيادة محمود الغزنوي، الذي قاد 17 حملة هناك حتى حاز لقب "الإسكندر الثاني".
وعن فتوحاته وفتح سومنات (شمال غرب الهند) عام 1025، قال الذهبي أنه: "فرض على نفسه كل سنة غزو الهند، فافتتح بلاداً شاسعة، وكسر الصنم سومنات الذي كان يعتقد كفرة الهند أنه يحيي ويميت ويحجونه، ويقربون له النفائس، بحيث إن الوقوف عليه بلغت عشرة آلاف قرية، وامتلأت خزائنه من صنوف الأموال، وفي خدمته من البراهمة ألفا نفس، ومائة جوقة مغاني رجال ونساء ، فكان بين بلاد الإسلام وبين قلعة هذا الصنم مفازة نحو شهر، فسار السلطان في ثلاثين ألفا، فيسر الله فتح القلعة في ثلاثة أيام، واستولى محمود على أموال لا تحصى".
وقد نتج عن فتوحاته في الهند دخول الكثير من السكان الهنود و أمرائهم وملوكهم إلى الإسلام، وانتشرت بينهم اللغة العربية لتسهيل قراءة القرآن الكريم وتعلم فقه الدين واللغة، حيث ازدهرت على إثرها الحركة الفكرية والأدبية والشعرية، ومن هنا بدأ عصر الإسلام الحقيقي الذي دخل بلاد الهند.
حروب أخرى خاضها السلطان الغزنوي
كما همَّ السلطان محمود بتوسيع حدود مملكته التي ورثها حتى امتدت من بخارى وسمرقند إلى الكجرات وقنوج وشملت أفغانستان وبلاد ما وراء النهر وسجستان وخراسان وطبرستان وكشمير وجزءً كبيراً من الولايات الواقعة في الشمال الغربي من الهند، وبلاد الغور الواقعة بين غزنة وهراة.
ومن بين حروبه التي خاضها مع غير الهنود، كانت حربه مع الأفغان عام 1019، بعد أن قامت قبائل الأفغان بشن غارات على مؤخرة جيشه عند عودته من فتح منطقة قريبة من أفغانستان، فهاجمهم في جبال أفغانستان مستخدماً تكتيك الخديعة الحربية، وشن عليهم هجوماً خاطفاً، فقتل وأسر العديد منهم.
كما أنه حارب السلاجقة عام 1029 الذين استقروا بخراسان بموافقة منه، ولكن الأهالي اشتكوا إليه من سوء معاملتهم وإحداثهم الإضرابات في منطقتهم، فأرسل إليهم أحد أمراء جيشه لتأديبهم إلا أنه فشل، فقرر السلطان قيادة جيشه بنفسه وتوجه لملاقاة السلاجقة في منطقة طوس بإيران حتى ألحق بهم هزيمة كبرى.
وفاته ونهاية دولته
اختلفت روايات المؤرخين حول تحديد سنة وفاة السلطان محمود الغزنوي، إلا أن أغلبها اتفق على أنها حدثت عام 1030م، بعد أن أصيب بوعكة صحية عانى منها آخر سنتين في حياته.
لم تصمد الدولة الغزنوية كثيراً بعد وفاة السلطان محمود الغزنوي عام 1030، وسرعان ما انهارت على أيدي الغوريين المسلمين الذين تابعوا بدورهم التوسع في الهند.
وعن وفاته قال الإمام ابن كثير في أحداث سنة 1030م: " وفيها توفي الملك الكبير المجاهد الغازي، فاتح بلاد الهند محمود بن سبكتكين -رحمه الله-، لما كان في ربيع الأول من هذه السنة توفي الملك العادل الكبير الثاغر المرابط المؤيد المنصور يمين الدولة أبو القاسم محمود بن سبكتكين صاحب بلاد غزنة وملك تلك الممالك الكبار، وفاتح أكثر بلاد الهند قهراً وكاسر أصنامهم وندودهم وأوثانهم وهنودهم وسلطنهم الأعظم قهراً"
ويكمل ابن كثير في وصف وفاته في كتابه "البداية والنهاية": وقد مرض -رحمه الله- نحواً من سنتين لم يضطجع فيهما على الفراش، ولا توسد وسادة، بل كان يتكئ جالساً حتى مات وهو كذلك؛ وذلك لشهامته وصرامته وقوة عزمه، وله من العمر ستون سنة -رحمه الله- … ".