كان إيبن بايرز شخصية اجتماعية مشهورة في الأوساط الأمريكية، ويعيش حياةً يُحسد عليها. درس في أفضل المدارس وقُدّم له المستقبل الباهر على طبقٍ من فضة، كيف لا؟ وهو نجل الصناعي الثري ألكسندر بايرز.
ظهرت في شبابه موهبته الواعدة في مجال رياضة الغولف، حين حصل على لقب الوصيف في بطولة الهواة الأمريكية للغولف لعامَي 1902-1903، قبل أن يحصد البطولة لاحقاً في العام 1906.
تولى إيبن بايرز إدارة شركة والده للحديد والصلب، من دون أن يُهمل شغفه في الغولف. فقد استمرّ في نشاطه الرياضي حتى أوائل أربعينيات القرن العشرين.
كان دائم السفر في أنحاء الولايات المتحدة لمشاهدة الفرق الرياضية التي يحبها؛ لكن بينما كان ينبغي له مواصلة العيش في ترف، جنباً إلى جنب مع الاستمتاع بنجاحاته في بطولات الغولف، حدث ما لم يكن في الحُسبان.
في العام 1927، وأثناء عودته بالقطار من إحدى مباريات كرة القدم في جامعة هارفرد، سقط بايرز وأصيب في ذراعه. وبالرغم من أنه نال الرعاية الصحية المناسبة وقتئذٍ، إلا أنه كان دائم الشكوى من الألم المستمر، وبدأ يؤثر ذلك على نشاطه الرياضي.
لم يكن الطب في عصره متطوراً، كما هو الحال اليوم. فقد شاع في تلك الفترة استخدام عنصر الراديوم، بعد اكتشافه، كإحدى الطرق العلاجية. وبناءً على توصية طبيبه، بدأ يتناول بانتظام مشروباً اسمه "راديثور" (Radithor)، وهو دواء يحتوي على عُنصر الراديوم المشع!
فأُصيب إيبن بايرز بحالةٍ تُسمّى "فك راديثور"، وهو مرض ناجم عن ابتلاع الراديوم المشع؛ فسقط فكّه وذابت عظام وجهه، قبل وفاته نتيجة إصابته بمرض السرطان. فأحدثت وفاته ثورة في مجال الطب.
إيبن بايرز وحياة الترف المُبكرة
وُلد إيين بايرز في 12 أبريل/نيسان 1880 بمدينة بيتسبرغ في ولاية بنسلفانيا الأمريكية. كان والده ألكساندر بايرز، من هواة جمع الأعمال الفنية، ومالك واحدة من كبرى شركات إنتاج الحديد المطاوع في الولايات المتحدة.
نشأ بايرز في مستوى معيشي عالٍ، كان قادراً من خلاله على الوصول إلى أفضل الامتيازات التي يُمكن للمال أن يشتريها -من ضمنها الالتحاق بمدرسة "سانت بول" المرموقة في ولاية نيو هامبشاير، فيما كانت تُعرف آنذاك باسم "كلية ييل"-.
تميز بايرز في المجال الرياضي خلال فترة شبابه؛ إذ فاز ببطولة الغولف الأمريكية للهواة في العام 1906. وفي وقتٍ لاحق، وحين احتاج إلى الراحة والتقاعد، أَسند والد بايرز إلى ابنه مسؤولية رئاسة شركة الحديد.
وبالفعل، نجح إيبن بايرز في إدارة الشركة بالتوازي مع اهتماماته الرياضية. لكن لسوء الحظ، سرعان ما تسبَّب حادث مأساوي في قيادته إلى مصير الموت المُبكر.
"راديثور"، الدواء المشع الذي شوَّه فكّ إيبن بايرز
في نوفمبر/تشرين الثاني 1927، كان بايرز في طريق عودته إلى المنزل بعد حضور المباراة السنوية لكرة القدم بين جامعتي ييل وهارفارد، عندما توقف فجأة القطار الذي كان يستقله، الأمر الذي تسبّب في سقوط بايرز من مضجعه وإصابة ذراعه.
وصف له طبيبه، سي سي موير، مستحضر "راديثور" -وهو دواء مصنوع من المياه المُذاب فيها عنصر الراديوم المشع- بعدما اشتكى من ألمٍ دائمٍ في ذراعه.
لم يكن أحد على دراية في تلك الفترة بأن المواد المشعة قد تؤدي إلى حدوث طفرات جينية وسرطانات في حال التعرُّض إليها بمستوياتٍ عالية؛ لذا، عندما طوَّر وليام جيه بيلي، أحد المنقطعين عن استكمال الدراسة في جامعة هارفارد، مستحضر "راديثور"، سرعان ما أصبح استخدامه شائعاً.
وفقاً لموقع منصة التدوين الأمريكية Medium، ادّعى بيلي كذباً أنه طبيب وقدّم للأطباء خصماً بنسبة 17% على كل زجاجة "راديثور" يصفونها إلى مرضاهم. الأمر الذي أحدث كارثة طبية كبرى.
من جهته وعلى مدار 3 سنوات، من عام 1927 إلى 1930، تناول إيبن بايرز ما يصل إلى 1400 جرعة من المياه المُشبّعة بالراديوم. كان يشرب يومياً ما يصل إلى 3 زجاجات من مستحضر "راديثور".
ادّعى بايرز أن هذا المستحضر منحه شعوراً بمزيد من القوة والنشاط، على الرغم من أن بعض التقارير تشير إلى أنه استمرّ في تناوله لسببٍ آخر مرتبط بالقدرة الجنسية.
على مدار 3 سنوات، تناول بايرز ما يصل إلى 1400 جرعة من المياه المُشبّعة بالراديوم
وبحسب سجلات ائتلاف الجامعات الأمريكية لأبحاث الطاقة النووية والنشاط الإشعاعي (ORAU)، كان بايرز معروفاً وسط زملائه في جامعة ييل بـ"الجد الماكر" نظراً لعلاقاته النسائية المتعددة.
ويبدو أن مستحضر "راديثور" ساعده في استعادة طاقته الجنسية عندما وصل إلى أواخر الأربعينيات من عمره. لكن أياً كانت أسباب بايرز لتناول هذا العقار، فإن الآثار الجانبية كانت مدمرة حقاً.
التداعيات المروّعة لـ"راديثور"
بعد معاناته من فقدانٍ شديد في الوزن وصداعٍ مزمن، واجه إيبن بايرز في العام 1931 صدمة حياته عندما بدأت عظام فكه تتفكّك تدريجياً، إلى أن أصبح شكل وجهه أقرب إلى الوحشي مع تفتت عظامه وأنسجته.
لعلّ الإيجابية الوحيدة وسط كلّ ذلك، أن للتسمم بالراديوم أثراً جانبياً يتمثل في فقدان القدرة على الشعور بأي ألم على الإطلاق.
وفي الوقت الذي بدأ فيه فك بايرز يتساقط، وعانى من آثارٍ جانبية مروّعة أخرى، بدأت لجنة التجارة الفيدرالية الأمريكية -وهي وكالة حكومية تابعة للحكومة الأمريكية- تتحرَّى عن مستحضر "راديثور" باعتباره عقاراً خطيراً.
وحين علمت بحالته، طلبت الوكالة من إيبن بايرز الإدلاء بشهادته، لكنه كان مريضاً جداً وقتئذٍ، فأرسلت له وكيلاً قانونياً، يُدعى روبرت وين، لأخذ أقواله في قصره بجزيرة لونغ آيلاند.
وفي تقريره، وفقاً لما جاء في موقع ati الأمريكي، كتب وين: "يصعب تخيّل المرور بمثل هذه التجربة البشعة في مثل هذا المكان الرائع. كان فكّه العلوي بالكامل غير موجود، باستثناء سنتين أماميتين، وسقط أيضاً معظم فكّه السفلي. كانت جميع الأنسجة المتبقية من جسده تتفكك، فكانت الثقوب تتشكّل بالفعل في جمجمته".
في 31 مارس/آذار 1932، توفي إيبن بايرز عن عمرٍ يناهز 51 عاماً. وعلى الرغم من أن التقرير الطبي أشار إلى أن سبب الوفاة هو "التسمّم بالراديوم"، إلا أن الوفاة حدثت في الواقع بسبب السرطان الذي أُصيب به جراء جرعات مستحضر "راديثور".
احتوى جسده على كميةٍ كبيرة من الراديوم المشع، حتى إن أنفاسه كانت ملوثة بالإشعاع؛ ما أدى إلى دفنه في تابوتٍ مبطّن بالرصاص لمنع تسرّب الإشعاع إلى التربة المحيطة.
يُمكن الاطلاع على صورة بايرز، بعدما سقط فكّه، عبر الضغط هنا، مع التنويه بأن المحتوى حسّاس
وفقاً لصحيفة "نيويورك تايمز"، سرعان ما أغلقت لجنة التجارة الفيدرالية شركة الطبيب المزيف ويليام جيه بيلي، على الرغم من ادعائه لاحقاً أنه توقف عن بيع الـ"راديثور" لأن الكساد الكبير قلَّل حجم الطلب على العقار.
بدأت الحكومة الأمريكية أيضاً في تضييق الخناق على الشركات الأخرى التي كانت توفر أدوية قائمة على عنصر الراديوم، خصوصاً أن شركة بيلي لم تكن الوحيدة الموجودة في ذلك الوقت.
واصل بيلي الدفاع عن عقاره حتى بعد وفاة بايرز، قائلاً: "لقد شربتُ من هذه المياه المشبعة بالراديوم أكثر من أي شخص آخر على قيد الحياة، ولم أعانِ قط من أي تداعيات ضارة". وقد توفّي في وقتٍ لاحق بسبب سرطان المثانة.
في نهاية المطاف، توسّعت صلاحيات لجنة التجارة الفيدرالية وإدارة الغذاء والدواء الأمريكية وأصبح مجال إنتاج الأدوية وبيعها أكثر تنظيماً.
اليوم، يجب أن يحصل أي عقار على موافقة إدارة الغذاء والدواء لضمان أنه آمن بما فيه الكفاية. ويعود الفضل في ذلك جزئياً إلى موت إيبن بايرز، الذي أحدثت وفاته ثورة ضدّ العلاج بالراديوم، وتسببت في التوسع اللاحق لسلطات لجنة التجارة الفيدرالية.