من المعروف لدى عموم الناس أن تاريخ إيران الحديث شهد ثورة دينية واحدة نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، عقب اندلاع ثورة الخميني عام 1979، التي نتجت عنها تغيرات دينية واجتماعية وسياسية ما زلنا نعايشها حتى يومنا هذا، إلا أن "ثورة دينية" سابقة حدثت في إيران قبلها بقرن من الزمان عرفت باسم "ثورة التبغ" أو "ثورة التنباك"، ونتجت عنها تغيرات لا تقل عن تلك التي أحدثتها ثورة الخميني.
"ثورة التبغ".. أولى الثورات الدينية في إيران
في نهاية القرن الثامن عشر، استطاعت قبيلة القاجار التركمانية، التي كان لها نفوذها منذ أن دعمت صعود الصفويين في إيران في بداية القرن السادس عشر، في السيطرة على مقاليد الحكم في إيران عام 1779 على يد أغا محمد خان، الذي استطاع توحيد البلاد، معلناً بدء عصر الدولة القاجارية.
اتسم عهد الدولة القاجارية بعدم الاستقرار وكثرة الحروب، التي أدت إلى تغلغل الإنجليز والروس في الشؤون السيادية الإيرانية، وشهد حكمهم التنازل عن العديد من الأراضي الإيرانية لروسيا، وزيادة النفوذ والامتيازات البريطانية في مناطق أخرى.
تحولت إيران خلال فترة بسيطة إلى مصدر للمواد الخام الرخيصة وسوق للسلع الصناعية من الدول الغربية، وأصبحت منشغلة بتصدير المواد الخام مثل الأفيون والأرز والتبغ والمكسرات، وأجبرت الدولة الناس على العمل في زراعة هذه المحاصيل، وإهمال المحاصيل الأخرى، التي بدورها أدت إلى زيادة معدلات الفقر وانتشار المجاعات بشكل دوري في إيران.
حاول بعض وزراء ومستشاري ناصر الدين شاه الذي حكم إيران عام 1848، إدخال بعض الإصلاحات على البلاد، واستغلال حالة العداء الروسي الإنجليزي القائم، للتقليل من النفوذ الأجنبي والحصول على استقلال حقيقي للسيادة الإيرانية، ولكن المحاولات فشلت لعدة عوامل.
أبرز هذه العوامل كانت السيطرة الأجنبية القوية على العديد من القطاعات في الدولة، وتعدي روسيا وبريطانيا على مناطق نفوذ إيران التقليدية، في خطوة لتأديب ومنع الشاه ومن حوله من اتخاذ أي موقف عدائي تجاه الدول المستعمرة.
سلوك الشاه ناصر الدين كان عاملاً آخر لفشل محاولات النهضة بإيران، فقد كان الشاه يهرول نحو القروض الأجنبية الضخمة لتمويل رحلاته الشخصية باهظة الثمن إلى أوروبا، وإقصاء وقتل أي صوت يحاول معارضته من رجال دولته.
الشعب الإيراني ينقم على العائلة الحاكمة
كل هذه العوامل مجتمعة، أدت إلى غضب ونقمة الشعب الإيراني على العائلة الحاكمة التي أفلست الدولة في عهدها، وزاد الاستبداد والعنف ضد المواطنين الذين لم يحصلوا على الامتيازات نفسها التي يحصل عليها أي شخص أوروبي يدخل إيران، حيث شعر المواطن الإيراني بالمذلة والإهانة، ناهيك عن الشعور العام بأن حكامهم يرضخون للمصالح الأجنبية، وبالتأكيد كان تحقيقها يأتي على حساب الشعب.
هنا برزت الدعوات الإصلاحية والثورية التي قادها رجال الدين في إيران، ودعت لمحاربة احتكار التجار الجشعين، والشاه وحاشيته، والقوى الاستعمارية التي تغلغلت في كل ركن من الدولة، وقسمت أراضيها فيما بينها.
ثورة التبغ .. بداية تبلور الفكر الديني "الثوري"
كان التحول المحوري في علاقة الشعب الإيراني مع العائلة القاجارية الحاكمة في نهاية مارس 1890، عندما منحَ ناصر الدين شاه لرجل الأعمال البريطاني جيرالد تالبوت، وهو أحد المقربين من رئيس الوزراء البريطاني في ذلك الوقت اللورد ساليزبوري، منحه حقّ الاحتكار الكامل لصناعة التبغ الإيرانية، بكافة أنواعها وبجميع مراحلها، من الزراعة والحصاد إلى البيع محلياً، والتصدير خارجياً لمدة 50 عاماً.
وبمقتضى هذه الاتفاقية تشتري الشركة المحتكرة وحدها كل المحصول من المزارعين، كما بات على تجار التبغ الحصول على إذن من الشركة صاحبة الامتياز والدفع فوراً لها، فيما يحصل الشاه على 15 ألف جنيه إسترليني من الشركة و25% من صافي الأرباح.
كانت الحكومة الإيرانية مدركة أن هذه الاتفاقية ستثير غضباً شعبياً عارماً، وذلك لأنه وفقاً للاتفاقية، سيتم سحب حق بيع وشراء التبغ والمنتجات المرتبطة به من أيدي الإيرانيين ومنحه للشركة البريطانية، في الوقت الذي كان فيه نحو 20% من الإيرانيين يعملون في قطاع التبغ، حسبما قال الباحث ستيفن بولسون في كتابه "الحركة الاجتماعية في القرن العشرين في إيران.. الثقافة والأيديولوجية وأطر الحشد".
لم يدم سر الحكومة طويلاً، بل افتضح أمرها أمام الشعب بعد مدة وجيزة، بعد أن قام جمال الدين الأفغاني بتسريب الخبر للجرائد التي فضحت بنود الاتفاقية وانتقدتها، وهاجمت الشاه بشكل لاذع، وهنا بدأ الشعب الإيراني بتوجيه انتقاداته بشكل علني للحكومة والشاه، متهماً له ببيع إيران للقوى الاستعمارية، ونهب ثروات المواطن.
كان رجال الدين في إيران هم من قادوا هذا التمرد الشعبي، وحاولوا تنظيمه ليكون صحوة دينية تنهي حالة الفساد المنتشرة في البلاد، وفرصة لإعادة القوة الدينية بمذهبها الشيعي في توازنات الدولة، كمرجعية تستعيد هيبتها التي كانت زمن الدولة الصفوية.
اجتمع علماء الدين ومعهم الأفغاني، على أن يقفوا جميعهم ضد قرارات الشاه، وأصدروا أمراً إلى الملا الإيراني ميرزا محمد حسن الشيرازي ليقوم بالتواصل مع الشاه وينهاه عن جميع أفعاله التي كان آخرها اتفاقية التبغ، مع العلم أن الشيرازي كان في ذلك الوقت المرجع التقليدي للشيعة، وقد اتخذ من النجف وسامراء مراكز له.
وفي منتصف عام 1891، أرسل الشيرازي رسالة إلى الشاه يطالبه بالعدول عن هذه الاتفاقية، وقد كان الشاه مدركاً لخطورة الأمر الذي وصل إلى الشيرازي مصدر فتاوى الشيعة، فحاول أن يسترضيه وأرسل له وفداً يقنعه بإيجابيات هذه الاتفاقية، إلا أن الشيرازي رفضها جملة وتفصيلاً.
كان رد الشيرازي على وفد الشاه، بمثابة قنبلة موقوتة ستفجر الوضع بأسره في إيران، وتؤجج ثورة شعبية عارمة ستقلب التوازنات رأساً على عقب، حيث أفتى بتحريم استعمال التبغ، وبأن "من استعمله كان كمن حارب الإمام المنتظر".
بمجرد أن أذيعت الفتوى في المنابر، امتنع الناس عن تدخين التبغ، حتى بلغ الأمر إلى حد أن زوجات الشاه وخدمه توقفوا عن التدخين، بحسب بولسون. كما أضرب التجار عن تجارة التبغ بجميع أنواعه، امتثالاً لفتوى الإمام، حتى أضرب تجار السلع الأخرى تضامناً مع تجار التبغ، وعمت الحالة الثورية في جميع أنحاء إيران، وقد كان رجال الدين يلهبون فتيلها.
تسارعت الأمور بشكل كبير، بعد أن اعتقلت قوات الشاه حجة الإسلام (لقب في الحوزة العلمية الشيعية) حاج علي أكبر في شيراز، واستمر تصاعد الوضع وانتشرت المظاهرات في عموم البلاد، وقد استخدمت قوات الشاه العنف وأطلقت النار على المتظاهرين، فلقي عدد منهم مصرعه.
نجاح الثورة الدينية وتبعاتها
حاول الشاه التحايل على الشعب الإيراني ورجال الدين من جهة، وعلى البريطانيين من جهة أخرى، في محاولة لكسب الوقت وتمرير الاتفاق، إلا أن الظروف انقلبت ضده وراحت تسوء يوماً بعد يوم إلى أن انتهت الاحتجاجات بإلغاء الاتفاقية رغماً عن الشاه، الذي وجد نفسه أيضاً مضطراً لدفع غرامة باهظة لإلغاء الاتفاقية قدرها 500 ألف جنيه إسترليني، فلجأ لأخذ قرض ضخم، زاد من حجم مصيبته.
حيث كان هذا القرض بمثابة مقدمة لعصر الإفلاس وانهيار الاقتصاد الإيراني، الذي أدى إلى تفاقم الفقر والجوع وانتشار الجهل، وأدى كذلك إلى انهيار الدولة القاجارية في ا بعد عام 1924 وظهور الدولة البهلوية.
حيث صار رضا خان (رضا شاه بهلوي 1925-1941) الشخصية السياسية الأبرز في إيران، بعد انقلابٍ عسكري وقع في فبراير/شباط عام 1921. وأقال المجلس أحمد شاه القاجاري رسمياً في أكتوبر/تشرين الأول عام 1925، أثناء زيارته لأوروبا، ثم أعلن انتهاء حكم سلالة القاجار.
تقول دائرة المعارف البريطانية إن ثورة التبغ كشفت قدرة طبقة التجار على إحداث تغيير، كما أظهرت أيضاً أن عدم الرضا الشعبي يمكن أن يحد من سلطات الشاه، وبينت ثورة التبغ كذلك تنامي نفوذ رجال الدين الشيعة الذين لعبوا دوراً مهماً ضد الاحتكار، وبات لهم تأثير كبير على التغيرات السياسية المقبلة.
كما أن ثورة التبغ مهدت للثورة الدستورية التي حدثت خلال حكم مظفر الدين شاه بين عامي 1896 و1907، والتي كانت تعتبر أحد أهم عوامل نهاية حكم القاجار.