لطالما حفل تاريخ مصر السياسي بالعديد من الأزمات والمواقف المُربكة. إلا أنه دائماً ما كان الشعب هو مقياس الحُكم على طبيعة الأمور والدفة التي تُعيد كل الأمور إلى نصابها، مهما طال الوقت أو قَصُر.
ففي وقت من الأوقات، تمكن المصريون من أن يصنعوا زعيماً قومياً ورمزاً للوطنية الحقيقية في البلاد، بعد أن قام هذا الشخص باغتيال سياسي من العيار الثقيل. ما هي قصة المصري الذي قتل وزيراً، فأصبح بطلاً قومياً؟
ومن هو مسؤول أول اغتيال سياسي يقع في مصر منذ أن قتل سليمان الحلبي الجنرال كليبر، خليفة نابليون في قيادة الحملة الفرنسية على مصر؟
من أين بدأت القصة؟
تعود أحداث الواقعة إلى عام 1910، حيث إن الشاب إبراهيم ناصف الورداني، أحد أعضاء الحزب الوطني، الذي أسسه مصطفى كامل، ومؤسس جمعية "التضامن الأخوي" السرية، هو البطل الأساسي للرواية.
على الجانب الآخر، كان بطرس غالي باشا، الذراع السياسية، الذي استغله الإنجليز لتوطيد حُكمهم وسيطرتهم على مصر، واستغلال مقدراتها.
فى الواحدة من ظهر 21 فبراير/شباط عام 1910، خرج بطرس باشا غالي من مكتبه بمجلس النظار (مجلس الوزراء اليوم)، برفقته حسين باشا رشدي، وزير الحقانية (وزارة العدل اليوم)، ووكيلها فتحي باشا زغلول. إضافة لعبد الخالق ثروت باشا النائب العمومي.
وفي نهار ذلك اليوم، أثناء شروع بطرس غالى بدخول سيارة رئاسة الوزراء دوَّت 6 رصاصات في اتجاهه، استقر نصفها في عنقه، ما أفضى إلى وفاته بعدها بساعات أثناء إسعافه، بحسب جريدة اليوم السابع.
بينما تمكن الحرس من الإمساك بالشاب القاتل وتقديمه للمحاكمة.
من هو إبراهيم الورداني؟
من مواليد عام 1886، كان إبراهيم ناصف الورداني يبلغ من العُمر 24 عاماً وقت قيامه بالاغتيال.
تربَّى الشاب يتيماً بلا والدين، حيث كفله أحد أقاربه من الحاصلين على الباشوية في كنفه، وأنفق عليه ورعاه حتى شبابه.
إذ أرسله ظيفل باشا حسن الورداني، الذي تولى عام 1924 رئاسة نقابة الأطباء المصريين، بعد إنهاء دراسته المدرسية لدراسة الصيدلة في مدينة لوزان بسويسرا، في الفترة من عام 1906 حتى 1908.
بعدها سافر الورداني إلى إنجلترا ليحصل على شهادةٍ أخرى في الكيمياء، وعاد إلى مصر في يناير/كانون الثاني، ليفتتح بمساعدة قريبه الذي تكفله صيدلية في شارع عابدين بالقاهرة.
انضم الورداني للعمل السياسي مبكراً، فكان عضواً في الحزب الوطني الذي يرأسه محمد فريد آنذاك، والذي غدا بعد ذلك على ارتباطٍ بجمعية مصر الفتاة التي أصبح الورداني عضواً فيها أيضاً، وكذلك التحق بجمعية "اليد السوداء".
جمعية "التضامن الأخوي" السرية
كتب الورداني في صحيفة "اللواء"، الورقة الإعلامية المتحدثة بلسان الحزب الوطني، إضافة إلى كتابته في صحيفة "المؤيد".
لكن سرعان ما شعر إبراهيم الورداني أن العمل السياسي آنذاك لم يكن فعالاً بالدرجة الكافية لتحقيق التأثير المطلوب على الشارع المصري، فأسس "جمعية التضامن الأخوي" السرية.
تلك الجماعة المسلحة رأت أنه من الضروري القيام بعمليات اغتيال مدروسة للنضال ضد الإنجليز، ورفع سيطرتهم عن البلاد في تلك الفترة.
وعبَّرت الجمعية عن عقيدتها القومية المتطرفة في ضرورة دفع الإنجليز لمغادرة مصر بكل الوسائل الممكنة، وإن تضمّنت قدراً كبيراً من العنف، وصلت إلى أن قانونها نصَّ على أن من ينضم إليها يجب أن يكتب وصيته. حتى أن خلية منها قامت بمحاولة اغتيال الخديوي عباس حلمي الثاني.
مصر تحت وطأة الاحتلال البريطاني
في الفترة التي كانت مصر ترزح تحت وطأة الاحتلال البريطاني للبلاد، عاشت البلاد فترة من المواجهات السياسية الحامية بين وطنيي الحزب الوطني بقيادة مصطفى كامل ومحمد فريد، وبين عملاء الاحتلال البريطاني المنتشرين في عُمق الحكومات المصرية المتتالية في تلك الفترة.
لكن بعد هزيمة الثورة العُرابية والقضاء عليها مع دخول البريطانيين البلاد، حرص الإنجليز على إملاء الشروط على الخديوي توفيق وخليفته من بعده الخديوي عباس حلمي الثاني.
وبالرغم من محاولات الأخير للقيام بالمناورات السياسية، من خلال تقرُّبه من الوطنيين بزعامة مصطفى كامل، لكن الإنجليز بزعامة المندوب السامي اللورد كرومر، شددوا قبضة الاحتلال أكثر.
ووصلت تداعيات تدخل الإنجليز في البلاد إلى تغيير ملفات حساسة في مصر، من بينها قضية انفصال السودان، ملفات وإعادة تمديد امتياز قناة السويس، علاوة على جريمة إعدام الفلاحين المصريين في واقعة دنشواي عام 1906.
هذه التداعيات أججت حمية الوطنيين في مصر، خاصة بعدما برز اسم بطرس باشا غالي، رئيس الوزراء وزير الخارجية آنذاك، بوصفه أبرز حلفاء الاحتلال البريطاني، خاصة مع صورية دور الخديوي.
بطرس غالي.. حليف الإنجليز
وُلد بطرس نيروز غالي في بلدة الميمون بمحافظة بني سويف، عام 1846. حيث تعلم العربية في كتاتيب القرية وهو طفل، ثم التحق بمدرسة للغات في القاهرة أتقن فيها الإنجليزية والتركية.
قبل أن يستكمل دراسته الجامعية في بعثة من الحكومة المصرية إلى الخارج.
بعد عودته، نشط بطرس في امتصاص زخم الثورة العرابية، ولهذا السبب كان القبطي الأول الذي يحصل على رتبة الباشوية، وفي عام 1893 تولى نظارة المالية (وزارة المالية اليوم).
لاحقاً في وزارة مصطفى فهمي باشا، أصبح بطرس غالي وزيراً للخارجية، واستمر في منصبه منذ عام 1895 وحتى عام 1908، وهي أطول فترة شغلها ناظر أو وزير في هذا المنصب آنذاك، بحسب موقع الجزيرة.نت.
وأثناء فترة وزارته، وقَّع غالي اتفاقية الحكم الثنائي المصري-البريطاني للسودان في يناير/كانون الثاني 1899، التي بموجبها أصبح لإنجلترا رسمياً حق الاشتراك في إدارة السودان، ورفع العلم الإنجليزي إلى جانب العلم المصري، وتعيين حاكم عام للسودان.
حادثة دنشواي ورئاسة وزراء مصر
هذه القرارات السابقة نجحت في جعل بطرس باشا غالي شخصية مكروهة بين المصريين، أثيرة لدى الخديوي، الذي وجد فيه حنكة في التعامل مع الاحتلال.
لكن ما قصم ظهر البعير هو موقفه في حادثة دنشواي. فبعد أن تم تعيينه على محكمة قضائية وضعها الإنجليز باعتباره وزيراً للحقانية بالنيابة نظراً لغياب وزارة للعدل آنذاك، أصدر حكماً بإعدام 4 من أهالي قرية دنشواي بالمنوفية ممن دافعوا عن أنفسهم ضد مجموعة من المعتدين البريطانيين عليهم. إضافة لأحكام بالسجن والجلد لآخرين.
في تلك الفترة، تقدَّم مصطفى فهمي باشا باستقالته بسبب اعتلال صحته في نوفمبر/تشرين الثاني 1908، فعهد الخديوي عباس حلمي لبطرس باشا غالي برئاسة الوزارة في اليوم التالي مباشرة، بعد موافقة مسبقة من الإنجليز.
وكان القرار الأول له في الوزارة هو تفعيل قانون المطبوعات الذي أصدره الإنجليز في نوفمبر/تشرين الثاني 1881 إبان ثورة عرابي للسيطرة على الصحافة في الدولة.
القانون الذي تُرك مُجمداً خوفاً من ردة فعل الشعب، أعاده بطرس غالي في مارس/آذار 1909. وكان تفعيل هذا القانون بمثابة إعلان الحرب على الحريات والصحف الوطنية وإغلاقها، بحسب صحيفة المصري اليوم.
غضب عارم في الشارع المصري
كانت الحملات التي شنَّها الحزب الوطني عبر صحيفة اللواء، بزعامة محمد فريد وغيره من صحفيي وشباب الحزب، لاقت صداها بين الناس، حتى إن الصحف الأخرى وطوائف المصريين أعلنت رفضها لتمكين الإنجليز من البلاد.
وقد كان عدم وجود دستور أو مجلس نيابي لمصر بمثابة كارت أخضر لكي تفعل بريطانيا ما تشاء في البلاد دون أي رقيب أو حسيب.
واقعة الاغتيال.. "شر لا بُد منه"
بسبب هذه القرارات التي لعب بطرس غالي فيها دور البطولة، قرر إبراهيم ناصف الورداني من خلال جمعية "التضامن الأخوي" أنه لا حل سوى باغتيال رئيس الوزراء بطرس غالي في 20 فبراير/شباط سنة 1910.
وبالفعل، في الساعة الواحدة بعد ظهر يوم 21 فبراير/شباط 1910، خرج بطرس غالي من مكتبه في ديوان الخارجية، بصحبة عدد من الوزراء والوكلاء، ثم فارق مَن كانوا معه عند السلم الخارجي.
وبينما كان يهم بركوب عربته اقترب منه الورداني مُتظاهراً بأنه يريد أن يرفع له عريضة وأطلق عليه عدداً من الرصاصات أصابته في عنقه وصدره وكتفه. وقع بطرس مضرجاً بدمائه قبل أن يُنقل إلى المستشفى، فيما أُلقي القبض على الورداني.
وبحسب الصحف المصرية، زار الخديوي عباس حلمي الثاني رئيس وزرائه وهو في نزعه الأخير بعد عملية جراحية دقيقة، لكن بحلول الثامنة من مساء ذلك اليوم توفي بطرس باشا غالي متأثراً بإصابته.
التحقيق مع الورداني والحُكم بالإعدام
على مدار 4 أشهر من التحقيقات المتواصلة، اعترف إبراهيم الورداني أنه نفذ ودبر العملية بمفرده تماماً، مبرراً دافعه لذلك بتوقيع بطرس غالي اتفاقية السودان، ومحكمة دنشواي، وقراره العمل بقانون المطبوعات، للتضييق على الصحافة وسجن الصحفيين.
وأضاف أيضاً أن محاولات مد مشروع "امتياز" البريطانيين لقناة السويس 40 سنة جديدة، لتكون حتى عام 2008، الذي تحمَّس غالي لتنفيذه، جعلت من الضروري قتل بطرس منذ زمن، على حد تعبيره.
أرسلت المحكمة أوراق القضية إلى مفتي الديار المصرية، الشيخ بكري الصدفي آنذاك، لأخذ مشورته في إنزال عقوبة الإعدام على الورداني.
إلا أن الصدفي رفض عقوبة الإعدام بشكل قاطع، وامتنع عن التصديق على هذا الأمر، لكن المحكمة التي خضعت للإنجليز ولسلطة الخديوي، واصلت قرارها.
وفي 28 يونيو/حزيران 1910 أُنزلت عقوبة الإعدام شنقاً على إبراهيم الورداني، بحسب موقع الجزيرة.نت.
بطل شعبي ورمز للوطنية
في هذا الوقت تحول إبراهيم ناصف الورداني إلى أيقونة شعبية ورمزٍ وطني في مصر بين عامة المواطنين. فباتت تُنظَّم فيه الأشعار والأزجال، ومنها أنشودة الزجل الشعبية "قولوا لعين الشمس ما تحماشي"، التي أصبحت بعد ذلك أغنية شهيرة في الستينيات من غناء الممثلة والمطربة شادية. وتقول كلمات الأغنية:
قولوا لعين الشمس ما تحماشي..
أحسن حبيب القلب صابح ماشي
يا حمام يا حمام.. طير قبله قوام يا حمام
ويا ناس لو غاب يا ناس.. خلوه يبعتلي كلام
الآه بقولها وهو ما يدراشي
وفي بعده طعم الدنيا ما يحلاشي
قولوا لعين الشمس ما تحماشي".
وبحسب موقع الشارع الجديد لتاريخ مصر، انتشرت حملات توقيع العرائض الرافضة لحكم إعدام الورداني، وخرجت المظاهرات تنديداً بالقرار.
وقد تم تداول صور الشاب في المقاهي والأماكن العامة إلى أن تم تجريم ذلك بقرار حكومي، ظل سارياً حتى ثورة يوليو/حزيران عام 1952.