قبل قرون طويلة من الزمان كانت الأندلس تُدعى شبه جزيرة إيبيريا، وكانت تقع في غرب أوروبا فيما بات يُعرف اليوم باسم دولتي إسبانيا والبرتغال. لكن معركة العقاب التي نستعرض أحداثها اليوم كانت. فصلاً مختلفاً في تاريخ تلك الدولة
دولة الأندلس المسلمة
حاوط الأندلس من الغرب المحيط الأطلسي ومن الجنوب البحر المتوسط، وفصلها عن المغرب العربي مضيق جبل طارق.
أطلق المسلمون اسم الأندلس على شبه جزيرة إيبيريا، وهي التسمية التي تعني "الشيء الخفي" وفقاً لمعاجم اللغة العربية، بعد أن دخلوها بقيادة طارق بن زياد، وبأمر من القائد موسى بن نصير الذي ولي بأمر من الوليد بن عبد الملك على المغرب، وبهذا أصبحت جزءاً من دولة الخلافة الأمويّة عام 771م.
استمرَّت دولة الأندلس ضمن الخلافة الإسلامية لقرابة 800 عام، حتى سقطت مملكة غرناطة، آخر ممالك الدولة الأندلسية عام 897، وكان لمعركة العقاب دور محوري في إنهاء هذا الفصل من تاريخ الأرض.
معركة العقاب وبداية النهاية للأندلس
خلال القرن الثالث عشر، كانت الحرب بالنسبة للعديد من السكان في أوروبا حقيقة من حقائق الحياة. فإما أنك تعرضت للقمع من قبل العصابات أو الجيوش الغازية، أو كنت غازياً بدورك.
وبين عامي 1200 و1300، لم يمر عقد من دون خوض حرب في مكان ما في أوروبا هدفها مد النفوذ والسيطرة على الأرض وتحقيق الثروة.
كانت تلك هي الدوافع الرئيسية وراء غزو الأندلس الذي أدى إلى معركة نافاس دي تولوسا، أو ما يُعرف عربياً باسم معركة العقاب عام 1212، لتكون هي بداية النهاية للأندلس.
دولة غنية ومطمع كبير
كانت الأندلس آنذاك دولة غنية بشكل مذهل، فقد كانت تحتوي على مساحات شاسعة من الأراضي الخصبة، التي تُروى معظمها باستخدام تقنيات غير معروفة في ذلك الوقت لبقية أوروبا.
امتلأت بالمساجد والقصور والحدائق التي اشتهر بها المسلمون في ذلك الوقت، ودخل فائق يعتمد على التجارة الخارجية بشكل لا مثيل له في أي مكان.
السلع المتداولة بين الوطن العربي من الأندلس وإفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا شملت الخدم والتوابل والعطور والذهب والمجوهرات والمصنوعات الجلدية وجلود الحيوانات والمنسوجات الفاخرة، وخاصة الحرير وزيت الزيتون.
كما حظيت جامعات غرناطة وقرطبة وإشبيلية بعلوم متقدمة سابقة لعصرها فيما يتعلق بالمعرفة بالأدوية والجراحة والنباتات وتربية الحيوانات والملاحة وصنع الخرائط وصناعات المعادن والميكانيكا، بمستوى لم يسبق له مثيل في أي مكان آخر في ذلك الوقت.
وعاش في تلك الإمبراطورية المزدهرة المسلمون والمسيحيون واليهود، وتصاهروا وأسسوا عوائل ومجتمعات متجانسة ومختلطة، وفقاً لموقع V Andalucia.
ومع ذلك، كان التبرير الذي بثه ملوك مختلف الإمارات المسيحية لمهاجمتهم الأندلس أنهم كانوا "ينقذون" السكان المسيحيين في الدولة المسلمة!
بطبيعة الحال كانت تلك مبررات مزعومة وعارية من الصحة؛ إذ لم يتمكنوا من تقديم أية دلائل عليها، بخلاف رغباتهم في زيادة النفوذ والثروة.
دولة المُوحِّدين قبل معركة العقاب
قبل التطرق إلى تفاصيل معركة العقاب، نشير إلى أن دولة الموحدين قامت في المغرب عام 1121م على يد محمد بن تومرت، داعيةً لإقامة خلافة إسلامية موحدة بالله.
ضمَّت الدولة في أوجها مساحات شاسعة شملت المغرب العربي بالكامل، وامتدَّت من مصر إلى المحيط الأطلسي، بالإضافة إلى الأندلس.
لم تقتصر عناية الموحدين بالأمن والحماية للأندلس وتقوية ثغورها وقواعدها، وإنما تعدَّى الاهتمام إلى الارتقاء بالأندلس وتعزيز نهضتها.
فأقام الخليفة يوسف بن علي، أهم المشاريع في إشبيلية، منها بناء القنطرة على الوادي الكبير، وتأسيس جامع إشبيلية الأعظم سنة 1172.
كان البابا إينوسنت الثالث زعيم الكنيسة الكاثوليكية، قد استطاع في تلك الأثناء، أن يحشد أمراء أوروبا لمحاربة المسلمين بمزاعم إنقاذ المسيحيين منهم.
فتقدم ألفونس الثامن ملك قشتالة إلى غزو الأندلس، قبل أن يحشد سلطان الموحدين آنذاك أبو يوسف يعقوب المنصور، جيوشه كاملة، ووقعت معركة الأرك في يوم 18 يوليو/تموز 1195.
ونتجة لتلك الواقعة، استطاع جيش دولة الموحدين فرض سيطرته على عدّة قلاع وحصون وأراضٍ من أراضي القشتاليين، كما غنم المسلمون غنائم هائلة.
وفقاً لما ذكره المقري التلمساني في كتابه "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب"، فقد قتل من جيش القشتاليين 146 ألف مقاتل، وأسر 30 ألفاً، وغنم الموحدون 165 ألف خيمة، و80 ألفاً من الخيل، و100 ألف من البغال، و400 ألف من الحمير، وما لا يحصى من الأموال والجواهر.
استمرّ الوضع على ما هو عليه لقرابة عقدين من الزمان؛ إذ حافظ المسلمون فيها على مكاسبهم من معركة الأرك، حتّى وقعت معارك صغرى سبقت معركة العقاب.
بداية النهاية
تأثر ألفونسو الثامن ملك قشتالة لعدة سنوات بسبب هزيمته الساحقة في معركة الأرك أو "ألاركوس" (1195) على يد الموحدين، وقيل إنه حلق رأسه واعتزل الناس لسنوات.
حتى إن رئيس أساقفة طليطلة، رودريغو خيمينيز دي رادا، تعاطف معه وشرع في إثارة السخط الديني على انتصار المسلمين على المسيحيين.
وبالفعل، تم الحصول على إعلان لحملة صليبية من البابا إنوسنت الثالث مجدداً، ما أدى إلى مزيد من الدعم من العديد من الأساقفة الفرنسيين.
وفي ربيع عام 1212، بدأت مجموعات من الفرسان الفرنسيين وفرسان المعبد في الالتقاء في طليطلة.
وقد انطلقت الحملة الصليبية جنوباً في 21 يونيو/حزيران، مدعومة بجيوش سانشو السابع ملك نافارا، وألفونسو الثانى ملك البرتغال، وبيدرو الثاني ملك أراغون.
وللرد على الهجوم، حدّد الناصر الهجوم على قلعة شلبطرة التي كانت بيد فرسان المعبد، وكانت نقطة إغارة على المدن الإسلامية، فطوق الموحدون القلعة وحاصروها وضربوها بالمنجنيق حتى فتحوها بعد 51 يوماً.
تأثر الصليبيون للأهمية الكبيرة لهذه القلعة، فهجموا على قلعة رباح في المقابل لأهميتها ولمكانتها عند المسلمين، فشدد الصليبيون عليها الحصار حتى استسلمت حاميتها الصغيرة نظير الأمان.
لكن هذه التداعيات أثارت غضب الصليبيين الذين أتوا من أوروبا للفتك بالجيوش الإسلامية لا لإعطائهم الأمان، فانشق كثير منهم وتركوا ألفونسو وعادوا إلى بلادهم.
وعلى الرغم من نجاحهم في الاستيلاء على تلك النقطة المهمة، سرعان ما تم تثبيط عزيمة القوات غير الإسبانية بسبب الظروف المناخية والمعيشية المرهقة للحملة، وعادت إلى ديارها.
سقوط دولة الموحدين
بعد وقت قصير من وصولها في 12 يوليو/حزيران، تمكنت الحملة الصليبية من الوصول إلى القاعدة الإسلامية في قلعة "كاسترو فيدال". قاد ألفونسو المسيحيين إلى المعركة، وحطم قوات الموحدين في 16 يوليو/تموز. وتابع ألفونسو انتصاره بالاستيلاء على بايزا وأبدة على الفور.
فيرناندو الثالث ملك قشتالة، راي سان فرناندو، الذي ورث العرش القشتالي من ألفونسو عام 1217، واصل أعمال سلفه، وواصل معاركه ضد دولة الموحدين، بحسب موقع Andalucia للتاريخ.
وقد استولى على قرطبة عام 1236، وعلى خواين عام 1246، وإشبيلية عام 1248؛ ثم استولى على أركوس ومدينة سيدونيا وخيريز وكاديز.
وبحسب الموسوعة البريطانية "بريتانيكا" لم تتضح الآثار الواسعة للهزيمة الإسلامية إلا بعد عام 1233، عندما تفككت إمبراطورية الموحدين بسبب الخلافات الأسرية المتلاحقة، وتراجع سيطرة المسلمين على الأندلس سريعاً قبل احتلال جيوش المسيحيين لشبه الجزيرة بالكامل بسبب عدم وجود زعيم مركزي للدولة المسلمة هناك.