صحيحٌ أنه استطاع أن يجتاز ببلاده مرحلة اقتصادية خطيرة، إلا أنّ الرئيس الأرجنتيني ذا الأصول السورية كارلوس منعم كان أكثر رؤساء الأرجنتين إثارة للجدل في تاريخ البلاد بعد عرّابه خوان دومينغو بيرون.
كارلوس منعم رئيس الأرجنتين.. بدايات حياته وصحوته السياسية
ولد كارلوس سؤول منعم في 2 يوليو/تموز 1930 في أنيلاكو – وهي بلدة صغيرة في مقاطعة لاريوخ في شمال غرب الأرجنتين.
كان كارلوس منعم مُسلماً سنياً ووالداه من المهاجرين من مدينة يبرود بريف دمشق في سوريا هما سؤول منعم ومهيبة عقيل، لكنه أصبح في شبابه مسيحياً من طائفة الروم الكاثوليك، لكنه احتفظ بعلاقات قوية مع وطن والديه.
بعد دراسة القانون في جامعة قرطبة الوطنية أصبح منعم محامياً في العام 1955، وتزوج من زليمة فاطمة يوما، وهي أيضاً سوريّة مسلمة ولدت في الأرجنتين.
في عام 1956، بعد عام من الإطاحة ببيرون في انقلاب عسكري، تم القبض على منعم لمحاولته إثارة معارضة عنيفة للحكومة وسجن لفترة وجيزة.
في العام التالي قام بتشكيل فرع إقليمي لحركة الشبيبة البيرونية، قبل أن ينتخب نائباً محلياً لمنطقته عام 1962، لكن انقلاباً عسكرياً آخر منعه من شغل مقعده.
كان كارلوس منعم المشهور بشعره الأسود وسوالفه الرمادية الكثيفة أحد أنصار الرئيس الأرجنتيني خوان بيرون حتى إنه سافر لمنفى بيرون في إسبانيا لملاقاته، والذي بدوره منحه مباركته وتوقع له مستقبلاً عظيماً، وفقاً لما ذكرته شبكة BBC البريطانية.
وفي العام 1973، تم انتخاب كارلوس منعم حاكماً لمقاطعة لاريوخا الشمالية عندما تم رفع الحظر المفروض على البيرونية في النهاية، وإعلان عودة خوان بيرون الذي بقي في الحكم حتى وفاته بعدها بعام في 1974.
بعد وفاة بيرون تسلمت زوجته الثالثة إيزابيل بيرون الرئاسة، وكان النظام السياسي في الأرجنتين يعاني من ضغط كبير، ليتدخل الجيش بعدها بـ3 سنوات أي في العام 1976، ويطيح بالسيدة بيرون، ويتولى خورخه فيديلا حكم البلاد المطلق حتى العام 1981.
بمجرد أن تولى فيديلا الحكم، تمّ سجن منعم من قبل المجلس العسكري هذه المرة لمدة عامين، بتهمة الفساد والارتباط بحركات حرب العصابات، وقد نُفي من العاصمة وفُرضت قيود على مشاركته السياسية حتى هزيمة الأرجنتين في جزر فوكلاند وانهيار نظام الجنرال ليوبولدو غالتييري.
بعد غالتييري تولى رينالدو بيغنوني الحكم مدة عام نصف، ومن ثمّ راؤول ألفونسين 6 أعوام حتى 1989.
كارلوس منعم أول رئيس من أصول عربية في أمريكا اللاتينية
قبل استقالة ألفونسين بعام تقريباً، أعيد انتخاب كارلوس منعم لمنصب حاكم منطقة لا ريوخا، وأصبح أيضاً مرشح الحزب البيروني للرئاسة.
في العام التالي فاز كارلوس منعم في الانتخابات وأصبح أول رئيس من أصول عربية للأرجنتين، وأمريكا اللاتينية على العموم.
وقام الرئيس المنتهية ولايته راؤول ألفونسين بتسليم السلطة قبل 5 أشهر في 8 يوليو/تموز 1989، لمنح السيد منعم السبق في إخراج الاقتصاد من تدهور كانت تعيشه البلاد.
تحديات اقتصادية واجهها منعم في بداية حكمه
تزامن وصول كارلوس منعم إلى الحكم مع تدهور هائل في اقتصاد البلاد ووصول معدل التضخم السنوي إلى 5000%.
فاجأ السيد منعم أتباعه بإدارته ظهره للعقيدة الحكومية المؤيدة للعمال والحكومة لحزبه العدلي، وهي حركة مستوحاة من بطله الرجل القوي السابق والرئيس خوان بيرون.
وبدلاً من ذلك، سعى السيد منعم إلى تحرير الاقتصاد، وفتح البلاد أمام المستثمرين الأجانب، وتوسيع التجارة، وسداد الديون الحكومية.
شرع منعم في إقناع شعبه بأنه قادر على تغيير ثروات بلاده، فقام بربط البيزو الأرجنتيني بالدولار الأمريكي، وخصخص المرافق العامة وأدخل اقتصاداً أكثر اعتماداً على السوق.
هذه التغييرات جعلته يتعرض لانتقادات كبيرة من البيرونيين لكنه دافع عن نفسه في أول خطاب له عندما قال وفقاً لصحيفة The Washington Post الأمريكية: "الأرجنتين محطمة.. مدمرة، مدمرة، مدمرة، لكن من هذه الأنقاض، سنبني البلد الذي نستحقه".
ولكن هذا الاستثمار الأجنبي الإضافي أعطى للبلاد دفعة مالية كانت في أمس الحاجة إليها، مما أدى إلى خفض التضخم وزيادة الإنتاج، لكنه جاء على حساب البطالة الجماعية.
على الرغم من ارتفاع معدل البطالة، انخفض التضخم السنوي إلى أقل من 10%.
ومع وجود البنوك التي تديرها الدولة وشركات الطيران وشركات النفط والسكك الحديدية والمرافق في ساحة المزاد، تدفق ما يقدر بنحو 24 مليار دولار من الاستثمار الأجنبي إلى البلاد في أوائل التسعينيات.
وبين عامي 1991 و1997، نما الاقتصاد بنسبة 6.1% سنوياً، وهو أعلى معدل في أمريكا الجنوبية ليتم الترحيب بالأرجنتين كنموذج للعالم النامي.
بالإضافة إلى ذلك أعاد كارلوس منعم العلاقات الدبلوماسية الكاملة مع بريطانيا، سيما أنّ العلاقات كانت قد توقفت منذ حرب جزر فوكلاند عام 1982.
كما لعب التنس مع الرئيس جورج إتش دبليو بوش، ونشر قواته وسفنه في حرب الخليج الأولى، وأثبت أنه حليف قوي للولايات المتحدة، لدرجة أن أحد وزراء خارجيته، غويدو دي تيلا، سخر من الموضوع وقال إن الأرجنتين تسعى إلى "علاقات جسدية" مع واشنطن.
الفوز بولاية ثانية قبل الخوض في تحديات اقتصادية جديدة
في ظل موجة من الشعبية والمطالبة بالبقاء في منصبه، توصل منعم إلى اتفاق مع حزب الاتحاد المدني الراديكالي المعارض في عام 1993 لتغيير الدستور للسماح للرؤساء الحاليين بالترشح لولاية إضافية، فأعيد انتخابه بسهولة في عام 1995.
خلال فترة ولايته الثانية، بدا أن منعم فقد لمسته، فكان يُنظر إليه على نطاق واسع على أنه يتجاهل الفساد الحكومي، وخاصة المخالفات المحيطة بالمبيعات المربحة للشركات التي تديرها الدولة.
لقد ملأ المحكمة العليا في البلاد بالحلفاء، وتبنى أسلوب حكم أكثر استبدادية، وحاول دون جدوى تأمين تغيير دستوري آخر حتى يتمكن من الترشح لولاية ثالثة على التوالي.
علاوة على ذلك، تم التشكيك في إدارته للاقتصاد وسط سلسلة من الصدمات الخارجية.
فجاءت أولاً الأزمات المالية في المكسيك وروسيا، بعد ذلك خفضت البرازيل قيمة عملتها في عام 1999، ووجد المستثمرون في الأرجنتين أن دولاراتهم ستذهب إلى أبعد من ذلك في ذلك البلد المجاور.
بدأ الاستثمار الأجنبي في الجفاف، وهوت الصادرات وغرق الاقتصاد الأرجنتيني في الركود.
خلال ذلك كله، رفض كارلوس منعم إلغاء ربط البيزو بالدولار الأمريكي، على الرغم من أن سعر الصرف لم يعد متوافقاً مع الظروف الاقتصادية السائدة.
ومن ثم لجأت حكومة منعم إلى الاقتراض المكثف، لكن ذلك أدى إلى ارتفاع أسعار الفائدة المحلية وأجبر العديد من الشركات على الإغلاق.
من منقذ البلاد إلى مدمرها!
ترك السيد منعم منصبه في ديسمبر/كانون الأول 1999، بعد ذلك بعامين، تخلفت الأرجنتين عن سداد ديونها العامة البالغة 155 مليار دولار، وهو أكبر تخلف عن السداد في ذلك الوقت من قبل أي دولة في التاريخ.
وكل ذلك جاء وسط أعمال الشغب وإخفاقات البنوك وعمليات التسريح الجماعي للعمال التي أدت إلى ارتفاع معدل الفقر إلى 58% والتي أدت إلى تفشي الجريمة، ما دفع العديد من المحللين إلى إلقاء اللوم على منعم.
الصحفي والمؤلف الأرجنتيني هوراسيو فيربتسكي قال لصحيفة واشنطن بوست: "هناك أرجنتينيون لن ينسوا أبداً ما فعله منعم لهذا البلد، وهناك أرجنتينيون لن يغفروا أبداً ما فعله منعم لهذا البلد".
كارلوس منعم في مواجهة قضايا الفساد
عندما تنحى منعم عن منصبه كرئيس، واجهته التحقيقات في قضايا الفساد، ورأى أن بعض قراراته الرئيسية قد ألغيت.
في عام 2005، قضت المحكمة العليا في الأرجنتين بأن عفواً رئاسياً أصدره كارلوس منعم لحماية المسؤولين العسكريين كان غير دستوري، كما أدين الجنرال خورخي فيديلا وغيره من قادة المجلس العسكري 1976-1983 فيما بعد بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وسجنوا.
في عام 2013، حُكم على السيد منعم بالسجن 7 سنوات لتورطه في مخطط لتهريب أسلحة أرجنتينية إلى الإكوادور وكرواتيا في أوائل التسعينيات، في وقت كانت فيه تلك البلدان تخضع لحظر دولي على الأسلحة.
وبعد ذلك بعامين، حُكم على السيد منعم بالسجن 4 سنوات لاختلاس أموال عامة خلال فترة رئاسته، لكنه رغم ذلك بقي طليقاً لأنه بحلول ذلك الوقت، كان قد انتُخب سيناتوراً عن مقاطعة لاريوخا، وهو المنصب الذي منحه حصانة من السجن.
وفاة ابنه.. حادثة أم اغتيال؟
كانت زوليما فاطمة يوما زوجة لكارلوس منعم طيلة 25 عاماً، والسيدة الأولى للأرجنتين من عام 1989 حتى عام 1991، عندما تطلقت من الرئيس كارلوس منعم.
أنجبت من منعم طفلين هما كارلوس جونيور منعم وزوليما ماريا إيفا منعم.
في العام 1995، توفي الابن كارلوس جونيور في حادث تحطم مروحية، وعلى الرغم من أنه كان حادثاً، فإن هناك نظريات مؤامرة تقول إنه تعرض للقتل، وهو ما كانت مقتنعة به زوليما يوما وابنتها زوليميتا على أنّ ابنها قُتل نتيجة مؤامرة دبرها مساعدو زوجها المتورطون في تهريب المخدرات.
كما استأجرت محققين خاصين قالوا إنهم وجدوا أدلة على وجود ثقوب الرصاص في الحطام وأكدوا دائماً أن الجثة التي دفنتها ربما لم تكن لابنهم، وزعمت أنه أصيب برصاصة في رأسه وتم تبديل الجثة لإخفاء الأدلة، حتى إنها ذكرت أن الجثة المدفونة في قبر المقبرة الإسلامية ليست جثة ابنها، وطالبت بإخراج الجثة.
كما كان لابنها ابنة غير شرعية اسمها أنتونيلا بينيتا، ولدت في عام 1988، فلم تتعرف عليها يوما على أنها حفيدتها ورفضت فحص الحمض النووي الخاص بها، وطالبت بإجراء الاختبار من جسد ابنها، لدعم طلبها لاستخراج الجثث.
وبينما وافق الرئيس منعم على المشاركة في اختبار الحمض النووي، رفض المضي في إخراج جثة ابنه، وهي أسباب رئيسية أدت إلى طلاقهما في العام 1999.
استمر لغز وفاة ابنه طيلة 21 عاماً وتحديداً حتى العام 2016، عندما اتهم الرئيس كارلوس منعم جماعة حزب الله اللبنانية بالتورط في مقتل ابنه الأكبر كارلوس منعم جونيور عام 1995.
ووفقاً لما ذكرته شبكة Fox News الأمريكية، فإن إفادة مكتوبة أمام قاضٍ يشرف على التحقيق في وفاة ابنه قال منعم إن وزير الخارجية الأرجنتيني السابق جيدو دي تيلا- المتوفى الآن- أخبره أنه سمع من خلال السفارات الأجنبية ومن أجهزة المخابرات مثل وكالة المخابرات المركزية والموساد أن حزب الله كان متورطاً في وفاة ابنه.
وقال منعم إنه لم يكن بإمكانه الكشف عن المعلومات من قبل لأنها كانت من أسرار الدولة.
زواجه من ملكة جمال الكون!
تزوج في العام 2001 من سيسيليا بولوكو، إحدى مشاهير التلفزيون التشيلي وملكة جمال الكون السابقة التي كانت تصغره بخمسة وثلاثين عاماً والتي انتهى زواجه منها في العام 2011.
ليس ذلك وحسب بل تحول كارلوس منعم أيضاً إلى شخص غريب الأطوار، فكان يتغزل علناً بالممثلات والراقصات الشرقيات، وبات يؤدي رقصة التانغو على شاشة التلفزيون ويفكر بصوت عالٍ حول تشكيل مجلس الوزراء بالكامل تقريباً من النساء.
وفاة كارلوس منعم
في 15 من ديسمبر/كانون الأول 2020، تمّ نقل كارلوس منعم إلى المستشفى بسبب إصابته بعدوى أحادية، وفي 24 من الشهر ذاته دخل في غيبوبة بعد فشل كلوي.
وفي 14 فبراير/شباط 2021، توفي منعم في بيونس آيرس عن عمر ناهز 90 عاماً بعد مضاعفات التهاب المسالك البولية ودُفن في مقبرة سان جوستو الإسلامية بجوار ابنه.