يُعتبر الشيخ عمر الفوتي خليفة المُسلمين في غرب إفريقيا؛ فهو من كبار رموز العلم والدعوة الإصلاحية في السنغال، وأشهر من تصدّى للمحتلّ الفرنسي.
في عام 1846، مطلع القرن 19، عاد إلى العاصمة داكار بعد رحلةٍ علمية طويلة بين القاهرة ومكة والمدينة والقدس، تلقّى خلالها العلوم الشرعية على أيدي الفقهاء.
كان شيخاً مؤسّساً لفكره، فانطلق في تأليف الكتب، أشهرها "الرماح" و"سفينة السعادة"، قبل أن يُعلن الجهاد في عام 1854، وينجح في تكوين قوة جهادية تعارض أي وجودٍ أجنبي في نواحي البلاد.
أراد الشيخ عمر الفوتي أن يتابع مسيرة الشيخ سليمان بال في الحفاظ على إرث وهوية السنغال الدينية، وإفريقيا عموماً، كما أراد أن يحافظ على الموانئ التجارية التي احتلّها الفرنسيون والبرتغاليون والهولنديون.
نجح في إعادة تأسيس إمبراطورية "تكرور" المُندثرة؛ فقد امتدت هذه الإمارة الإسلامية التي دعا إليها إلى نواحي غرب إفريقيا، بعدما حارب الوثنيين الأفارقة والفرنسيين، إلى أن توفي في ظروفٍ غامضة وغريبة من دون أن يحضر جنازته أحد، لا عدوّ ولا صديق.
من هو عمر الفوتي؟
لا يعرف المؤرخون التاريخ الحقيقي لمولد الشيخ عمر الفوتي، وقد أوضح الموقع الرسمي للطريقة التيجانية أنه وُلد في مدينة هلوار بأواخر شهر شعبان بين سنتَي 1210 و1213 هجرية، الموافق لـ1795 و1798 ميلادية.
اسمه الكامل عمر بن سعيد الفوتي، ويُعرف أيضاً باسم "الحاج عمر تال"؛ وقد وُلد في منطقة "فوتا تورو" شمال السنغال، من أبوين منحدرين من جدٍّ واحد. والده هو سعيد بن عثمان بن مختار سنب، ووالدته هي السيدة آدما بنت الإمام سري بن دنب بن سري.
بدأ تعليمه في قرية برسجخور على يدي الشيخ دمبا سراج فال؛ ثم، لما بلغ من العمر خمس سنوات، أدخله والده المدرسة عند الشيخ المجود، الإمام قِرى حماد، فحفظ القرآن على يديه وهو في الثامنة.
واصل تعليمه القرآني عند شقيقه الفاهم أحمد، ثم سافر الى قرية دربس لتعلم اللغة والنحو والفقه لدى العلامة الشيخ بَسَمور الأمير بن عبد الله.
وقد أخذ الطريقة التيجانية عن شيخه عبد الكريم بن أحمد، الذي التقى به بناحية بدور، ثم سافر معه إلى أرضه في فوتا جلون (غينيا حالياً) حيث خدمه لسنةٍ وبضعة أشهر، بالموازاة مع تدريسه لعلوم السنة، كما جاء في كتابه "رماح حزب الرحيم في نحور حزب الرجيم".
والطريقة التيجانية، التي أسّسها أحمد التيجاني، هي طريقة صوفية ينتشر مريدوها في تشاد والنيجر ونيجيريا، وبشكلٍ أقلّ في السنغال ومالي. ففي غرب إفريقيا، يرتبط انتشار الإسلام وتوسّعه بالطرق الصوفية، خصوصاً التيجانية والقادرية، التي ينضم إليها الناس كجسرٍ لاعتناق الدين الإسلامي.
كانت هذه الطرق مسلكاً طيباً يعتمده الناس في الدعوة، والمنافسات الداخلية، في مواجهة المدّ الأوروبي، ونزعة الهيمنة في القرن التاسع عشر. ولكلّ واحدة منها زعيم يوجّه الأتباع والمريدين، وكان أبرزهم الشيخ عمر الفوتي، الملقّب بخليفة المُسلمين لتأسيسه دولة ماسينا الإسلامية بعد رحلته الطويلة إلى الحجّ.
رحلة الشيخ عمر الفوتي العلمية الطويلة
مع بداية سنة 1827، قام الشيخ عمر برحلات عديدة وطويلة خارج موطنه الجديد "فوتا جالون"، استمرت 18 عاماً. سافر إلى مدينة "حمد الله"، بمالي حالياً، عاصمة إمبراطورية "ماسينا"، حيث التقى بمؤسّسها شيخو أحمادو. ثم رحل إلى سوكوتو، شمال نيجيريا، عاصمة الإمبراطورية التي تحمل الاسم نفسه، حيث استضافه السلطان محمد بلو لعدة أشهر، وزوّجه إحدى بناته بعدما أُعجب بعلمه وأخلاقه.
عقب ذلك، توجّه الشيخ عمر الفوتي شرقاً، قاصداً مكة المكرمة لأداء فريضة الحج. عَبَرَ صحراء فزان الليبية نحو مصر، حيث تعلّم الشريعة على يد علماء الأزهر، ومنها إلى الحجاز.
هناك، وبعد أدائه فريضة الركن الخامس من الإسلام، التقى بمحمد الغالي، الذي يعود أصله إلى مدينة فاس المغربية، وهو أحد رواد الطريقة التيجانية وتلامذة مؤسّسها أبي العباس أحمد التيجاني.
بقي الفوتي، رفقة الشيخ محمد الغالي، 3 سنوات بالمدينة المنورة. خدمه وتتلمذ على يديه، قبل أن يمنحه الغالي بعدها لقب "خليفة التيجانية لبلاد السودان". وبلاد السودان في تلك الفترة هو الاسم الذي كان يُطلق على المنطقة الممتدة جنوب الصحراء، من المحيط الأطلسي في الغرب إلى نهر النيل في الشرق.
بعد رحلته إلى الحجاز، قفل الحاج عمر الفوتي راجعاً إلى إفريقيا سنة 1245 هجرية، فاستقرّ في مصر على مدى 7 أشهر للتدريس، ثم ببلاط سلطان مملكة "كانيم" التي كانت تضم أجزاءً من التشاد ونيجيريا. لاحقاً استضافه صهره محمد بلو، ملك إمبراطورية "سوكوتو"، في قصره للمرة الثانية، وجعله أحد مستشاريه السياسيين وأحد قادته العسكريين، إلى أن وافته المنية بعد بضع سنوات.
عودة الشيخ عمر الفوتي إلى السنغال وإعلان للجهاد
واصل الشيخ عمر طريق العودة بالإقامة لفترةٍ قصيرة في مدينة "حمد الله" عند الملك شيخ أحمادو، ثم تعرّض للاختطاف والسجن من طرف الملك الوثني لمملكة "بامبارا سيغو".
قضى في السجن بضع سنوات قبل أن يُطلق سراحه ويذهب إلى فوتا جالون، ويؤسّس زاوية خاصة به برخصةٍ من الإمام، وهو لقب كان يُطلق على حاكم "إمامة فوتا جالون"، وهي دولة دينية مثل إمامة فوتا توررو، الموطن الأصلي للشيخ الفوتي.
بقي الشيخ الفوتي بزاويته في فوتا جالون 13 سنة، واتخذها مركزاً للتدريس على مبادئ الطريقة التيجانية، ولنشر الإسلام في المناطق المجاورة التي كانت مليئة بالوثنيين والمرتدّين، ثم ارتحل في عام 1846 إلى مدينة دينغويراي، القريبة من فوتا جالون، والواقعة في شمال غينيا، ليؤسّس دولةً جديدة ويحضّر للجهاد في سبيل الله .
وبعدما أصبح للشيخ عمر الفوتي آلاف الأتباع، وكسبَ سمعةً دينية كبيرة في غرب إفريقيا، نجح في تجهيز جيشٍ منظّم يملك أسلحة متطوّرة (مقارنة بذلك العصر)، والتي جلبها بواسطة تجار الأسلحة المتعاملين مع الأوروبيين في سواحل غرب إفريقيا.
بدأ جهاده حوالي عام 1852 من خلال مهاجمة الشعوب الوثنية في نهر النيجر، بحسب ما ذكره موقع Herodote الفرنسي المتخصّص في التاريخ، الذي أشار إلى أنّ المقاومة الرئيسية لهذا الجهاد جاءت من قبائل بامبارا لمملكتي "سيغو" و"الكارتا"، التي كانت تخشى بيع أبنائها كعبيدٍ في حال أُسِروا من طرف قوات الشيخ عمر الفوتي.
وفي عام 1856، استولى الحاج عمر الفوتي على "نيورو" عاصمة الكارتا، ثم حاول في يوليو/تموز 1857 الاستيلاء على "ميدين"، وهو موقع فرنسي عسكري يقع في شمال السنغال، وذلك بقصد فتح طريق إلى الجنوب. ولكن قوات الشيخ تعرّضت للهزيمة، أمام الجيش الفرنسي بقيادة العقيد لويس فيدربه.
تراجع الشيخ عمر بعد تلك الهزيمة نحو نهر النيجر؛ كما وقّع، في عام 1860، على معاهدةٍ مع الجنرال لويس فايديهريب، الحاكم الفرنسي للسنغال، يقبل من خلالها اعتبار نهر السنغال حدوداً مشتركة بين الدولتين.
وبهدف توسيع دولته، التي تُسمّى "إمبراطورية تكرور"، هاجم الشيخ عمر الفوتي مدينة سيغو، عاصمة مملكة بامبارا سيغو ، والتي استولى عليها لاحقاً في عام 1861.
لجأ ملك بامبارا سيغو رفقة جزءٍ من جيشه المهزوم إلى مملكة ماسينا، التي بات يحكمها الزعيم الفولاني أحمدو أحمدو، بعد وفاة جدّه شيخو أحمدو، صديق الشيخ عمر الفوتي.
فتحالف ملك سيغو مع الملك الجديد لماسينا، مستغلاً منافسته الدينية مع الشيخ الفوتي، فقد كان أحمدو أحمدو من أتباع الطريقة القادرية. فوقعت حربٌ مفتوحة، انتصر فيها الشيخ عمر الفوتي واستولى على مدينة "حمد الله" سنة 1862.
اختفاء الشيخ عمر الفوتي.. دخل مغارة ولم يخرج منها
سعى الشيخ الفوتي لمواصلة زحفه نحو الشمال، لكنه لم يتمكن من السيطرة على كل المناطق التي تشكل دولة مالي الحالية. فبعدما وصل في عام 1863 إلى مدينة "تمبوكتو"، تشكلت مقاومة كبيرة العدد والعدة ضدّه في تلك المدينة.
كانت تسيطر عليها قبيلة عربية يتزعمها "البقاعي"، أحد شيوخ القادرية، والذي كان قد دعم البامبارا خوفاً من غزو بلاده من طرف الحاج عمر الفوتي. وذلك قبل أن يخوض الحرب بنفسه مع غريمه، وينجح في القضاء عليه يوم 12 فبراير/شباط 1864.
تقول الروايات الشفوية، وبالخصوص تلك الآتية من أتباع الطريقة التيجانية، إن الشيخ عمر الفوتي قد اختفى في ظروفٍ غامضة، بعدما دخل مغارةً في منحدرات "باندياغارا" الصخرية بمالي ولم يخرج منها أبداً.
ولكن، وفقاً للموسوعة البريطانية Britannica؛ فإنه، وبعدما تحالف ضدّه كل من قبائل الطوارق الرُحّل والعرب وأعدائه من الفولاني والمور، وفقدانه لعددٍ كبيرٍ من جنوده، تراجع الشيخ عمر الفوتي عن تمبوكتو نحو مدينة "حمد الله"، حيث تمّت محاصرته، قبل أن ينجح في الهرب ويلجأ الى إحدى مغارات باندياغارا الصخرية، فقام حينها أعداؤه بتفجير المغارة بالبارود.
استمرت إمبراطورية "تكرور" 50 سنة، من عام 1848 إلى 1897، أي إلى ما بعد وفاة مؤسّسها الشيخ عمر الفوتي. وقد خلفه ابنه أحمدو شيخة، حتى تاريخ ضمّها من طرف فرنسا لمستعمرتها، التي كانت تُسمّى وقتئذٍ إفريقيا الغربية الفرنسية.
وقد ضمّت إمبراطورية "تكرور" في عهد الشيخ عمر الفوتي أجزاءً واسعة من دولة مالي الحالية، وأجزاءً أخرى من السنغال وغينيا والنيجر وموريتانيا، وهي المنطقة نفسها تقريباً التي كانت تُشكّل مملكة "تكرور" من القرن السابع إلى الـ13، قبل أن تنقسم إلى عدة ممالك وإمارات صغيرة.
لم يبقَ حالياً من آثار إمبراطورية تكرور للشيخ الفوتي، سوى المسجد الذي بناه بمدينة "دينغويراي" الغينية، وسيفه الذي لا يزال معروضاً بمتحف الجيش الفرنسي في باريس، والذي يبلغ طوله (مع الغِمْد) 84 سنتيمتراً، ويزن 0.78 كيلوغرام.