قبل حوالي أكثر من 300 عام انتهت حياة واحد من أكثر الشخصيات غموضاً وإثارة في تاريخ الدولة العثمانية، وكذلك في التاريخ الإسلامي، فحسين أفندي اكتسب نفوذه وسطوته داخل بلاط السلطنة عن طريق عمله بالسحر والشعوذة وادعائه التعامل مع الجن، حتى عُرف بين الأتراك باسم "جنجي هوجا" أي الأستاذ المتخصص بالتعامل مع الجن.
تعتبر قصة حسين أفندي من أكثر القصص التاريخية شهرة بين الأتراك، خصوصاً أنها تُشكل معلم مدينة صفران بولو التاريخية، المصنفة من بين أفضل 20 مدينة محفوظة حول العالم في قائمة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو).
فمن بين الآثار المهمة في هذه المدينة المشهورة بأبنيتها ومساجدها وخاناتها الخشبية المبنية من الخشب خلال القرن السابع عشر الميلادي، يوجد حمام ونزل "جنجي هوجا"، التي لا بد من أن يراها الزائر للمدينة، ويتساءل عن قصة صاحبها المثيرة بالفعل، فما قصة جنجي هوجا؟
جنجي هوجا.. تعلّم السحر منذ طفولته
وُلد حسين أفندي في مدينة صفران بولو، إلا أن المؤرخين لم يستطيعوا تحديد تاريخ ميلاده بشكل دقيق، وتذهب التخمينات إلى أنه وُلد في الفترة من 1590 إلى 1610، وكان والده محمد جلبي، وجده كاراباش إبراهيم أفندي، من أحد الأسماء المهمة في المنطقة، فكانا شيوخاً ومن وجهاء المدينة.
تلقى تعليمه المبكر تحت إشراف والده، الذي قام بتعليمه السحر، قبل أن يرسله إلى إحدى المدارس السليمانية في إسطنبول لإكمال تعليمه، وهناك وجد الشاب حسين فرصته لممارسة ما تعلمه من سحر من والده، وشق به طريقه رغم صغر سنه.
فبدأ التلميذ حسين أفندي يمارس السحر بين أقرانه ومنطقته ليكسب من ورائه المال، حتى اشتهر اسمه في فترة قصيرة في جميع أنحاء المنطقة، وعرف بين الناس بأنه مصحوب بقوة غريبة تدور حوله أينما ذهب، وأن صلواته ودعائه فيهما شفاء للمنكوبين والمرضى.
لم يكن هذا الوضع يُعجب معلمي حسين، فقرروا اتخاذ إجراء بفصل التلميذ حسين، الذي لم يكفّ عن التعلم والتعمق أكثر فأكثر في عالم السحر.
من بلاط السلطان.. تحول حياة حسين أفندي
في الوقت الذي فُصل فيه حسين أفندي من مدرسته كان صيطه ينتشر بشكل كبير بين الناس، حتى إنه وصل إلى بلاط السلطنة، وهنا كان التحول الحقيقي في حياة حسين أفندي، بعد أن استدعته السلطانة كوسم لعلاج ابنها إبراهيم الأول، الذي كان يعاني من اضطرابات نفسية حادة، لدرجة أنه لُقب بـ"إبراهيم المجنون".
وكان إبراهيم الأول قد عانى من قسوة تعامل أخيه السلطان مراد الرابع معه، الذي حكم قبله، فأصبح يعاني من اضطرابات، وعزل نفسه بعيداً عن الناس لخوفه المستمر من القتل، وأصبح يعاني من آلام في الذراع والساق والصداع المستمر.
وبعد أن عجزت والدته عن معالجته لجأت للشاب حسين أفندي، الذي قدم بالفعل إلى القصر، وبالفعل شفي السلطان على يده وشعر بالارتياح وأصبح أفضل من ذي قبل، وهنا بدأت حياة حسين تتغير إلى الأبد، وأصبح الآن "حسين هوجا"، أي الأستاذ الذي شفى السلطان.
سرعان ما انتشرت أخباره في جميع أرجاء الدولة العثمانية، خصوصاً بعد أن كوفئ مقابل خدمته العظيمة، حيث تم تخصيص قصر مفروش له، ليكون معلماً خاصاً للسلطان، وأصبح مديراً في إحدى المدارس السليمانية رغم أنه لم يُكمل تعليمه، بل تم تعيينه قاضياً، بهدف أن يصبح قاضي إسطنبول، رغم معارضة شيخ الإسلام في تلك الفترة يحيى أفندي.
جنجي هوجا.. تعامل مع الجن حتى أصبح قاضياً
حسين أفندي الذي أعلن أنه يستطيع التعامل مع الجن، وأطلق على نفسه لقب "جنجي هوجا"، بدأ يعمل على تقوية نفوذه السياسي داخل الدولة، من خلال كسب الأموال الطائلة وكسب المزيد من ثقة السلطان.
كانت خطوته التالية هي الزواج من ابنة كاراتشيلي بزاد محمود أفندي، الذي كان أحد أبرز رجال السلطان، وعضواً في مجلس القضاة، وشغل منصب شيخ الإسلام لاحقاً، لتقوية نفوذه داخل الدولة، وكسب المزيد من الشرعية الدينية، وتكوين قاعدة جماهيرية كبيرة في بلده الأم صفران بولو، وفي إسطنبول.
حاول جنجي هوجا الانضمام إلى المجلس، ولكن كان العديد من أعضاء المجلس بقيادة مصطفى باشا يعارضون فكرة توسع نفوذه، إلى أن مات مصطفى باشا، وتمكن جنجي هوجا من أن يحصل على منصب قاضٍ عسكري أناضولي عام 1644، وهو منصب يمكّنه من التعامل مع القضايا الشرعية، وتعيين موظفين وقضاة، كما أنه لعب دوراً في هذه الأثناء في إشعال الحملة العثمانية على كريت عام 1645.
اتهم جنجي هوجا منذ بداية عمله في هذا المنصب بتلقي الرشاوى الضخمة، وسوء استخدام المنصب والإساءة للدين، حتى وصلت هذه الشكاوى إلى السلطان صديقه، الذي أمر بعزله ونفيه إلى إزميت على حدود إسطنبول عام 1646.
وبعدها بأيام قليلة هدأت العاصفة، ومعها غضب السلطان إبراهيم أحمد الأول، الذي أصدر عفواً بحقه، وأعاده إلى إسطنبول ليعمل مجدداً في منصبه، لكن جنجي هوجا استغل عفو السلطان عنه وعدم إخضاعه للمراقبة حتى انهالت عليه الشكاوى مرة أخرى، وهنا أمر السلطان بعزله مجدداً، ونفيه ورفاقه إلى شبه جزيرة جاليبولي، التي تقع في تراقيا الغربية، ولكن بعد 10 أيام عفا عنه وأعاده إلى إسطنبول.
استمر جنجي هوجا في جني الكثير من الأموال خلال تلك الفترة مستغلاً علاقته القوية مع تلميذه السلطان، ولكن أتت الرياح بما لا تشتهي السفن في عام 1648، حينما تم عزل السلطان وقتله، ليصبح الآن في مواجهة السلطان الجديد محمد الرابع.
وانقلب السحر على الساحر
كانت الكارثة التي تواجه جنجي هوجا أن السلطان الجديد كان لا يزال طفلاً عند توليه العرش، وكانت حاشيته بقيادة جدته السلطانة كوسم، ثم والدته خديجة تورخان، هي التي تحكم حتى يبلغ سن الرشد، حيث طلبوا من جنجي هوجا أن يثبت ولاءه للسلطان الجديد بأن يعبئ 200 حقيبة من الأموال والذهب والفضة لدفعها للجيش.
رفض جنجي هوجا دفع المال، وادعى أنه لا يملك أي ثروة تذكر، حتى تم إصدار قرار بمداهمة منزله واعتقاله، وبالفعل أرسل له وزير السلطان جنوده الذين قاموا بضربه بعد أن حاول الهرب والقفز من منزله، ولكن دون جدوى.
حاول جنجي هوجا مساومة الوزير بأن يسلم 100 حقيبة من الأموال مقابل الإفراج عنه وأن يعود لمنصبه، ولكن قوبل بالرفض، وفي تلك الأثناء كان الجنود يفتشون في منزله، ووجدوا أنه يمتلك 200 حقيبة من القروش، وما يعادلها من حزم وصناديق من الذهب والمجوهرات، وأكثر من 50 فراء لحيوان السمور، وعدد كبير من المفروشات والأدوات المنزلية الثمينة، وتمت مصادرة الكثير منها، بالإضافة إلى ممتلكاته من الحقول والقرى، بتهمة أنه اكتسبها جميعاً بطرق غير شرعية.
وأمر الوزير باحتساب الأموال التي حصل عليها أثناء عمله في كنف السلطان، كما أنه أرسل إلى والد زوجة جنجي هوجا يطالبه بدفع المبلغ الذي أخذه مهراً لابنته منه، ويبلغ قيمته 1000 قطعة من الذهب، كما أمر بحبسه.
خوف بلاط السلطان منه.. ونهاية جنجي هوجا
بعد فترة من الوقت أصدر الوزير قراره بالإفراج عن جنجي هوجا، وتم تعيين حسين أفندي للعمل معلماً في إمارة سنجق في إبريم في المقاطعة الحبشية، خوفاً من شعبيته ومن قوته الروحية، حتى أشار عليه مستشاروه بأن يعيده إلى إسطنبول وهو في طريقه إلى بورصا، خصوصاً أن مرض النقرس قد اشتد عليه هناك.
وأثناء إقامته في إسطنبول حاول جنجي هوجا ومريدوه وأتباعه الانتقام من بلاط السلطان، عن طريق إعلان استئناف عمله بالسحر، والتعامل مع الجن لزيادة عدد مريديه، والتخطيط لانقلاب يطيح بالسلطان الصغير وحاشيته، مستغلاً عوامل الاضطراب التي كانت تسود الدولة العثمانية تلك الفترة، فأمر الوزير بأن يتم قتل جنجي هوجا والتخلص منه إلى الأبد، في نهاية شهر أكتوبر/تشرين الأول عام 1648، تاركاً وراءه آثاراً تتحدث عنه في مدينة صفران بولو حتى يومنا هذا.