في خضم الصراع الذي كان دائراً في القرنين الـ 18 والـ 19 بين القوى الأوروبية العظمى لاستعمار أراضٍ جديدة، تم اكتشاف الكثير من الجزر النائية بالمحيطين الأطلسي والهادئ، فكان من بينها كاليدونيا الجديدة التي لا تزال إلى حد الآن تابعة لفرنسا ويسكنها خليط من الأجناس، منهم العرب، و بالأخص الجزائريون.
تقع كاليدونيا الجديدة في جنوب غرب المحيط الهادي على بعد 1210 كلم شرق أستراليا، وهي عبارة عن أرخبيل، بمساحة إجمالية تقدر بـ 18.575 كلم مربع، وأكبر جزرها هي "غراد تير"، والتي تعني باللغة الفرنسية "الأرض الكبيرة"، ويبلغ طولها 400 كلم، وعرضها الأكبر بـ 64 كلم، ويبلغ عدد سكان كاليدونيا الجديدة 271.407 نسمة بحسب إحصاء العام 2019، ويعيش منهم 94285 نسمة في العاصمة "نوميا" الواقعة في جزيرة "غراند تير".
اكتشاف كاليدونيا الجديدة
تم اكتشاف كاليدونيا الجديدة من طرف القبطان البريطاني جيمس كوك يوم 4 سبتمبر/أيلول 1774، وأطلق عليها هذا الاسم بعدما لاحظ أن سواحلها تشبه مسقط رأس والده "أسكتلندا" بحيث أنّ "كاليدونيا" هو الاسم اللاتيني القديم الذي كان يُطلق على مقاطعة "أسكتلندا" ببريطانيا.
وقد اكتفى كوك باكتشاف جزيرة "غراند تير" ووطأت قدماه الجزءين الشرقي والشمال الشرقي منها، إضافة لجزيرة الصنوبر الصغيرة الحجم، وذلك قبل أن يحط الرحال بها يوم 17 أبريل/نيسان 1793، الأميرال الفرنسي أنطوان ريمون جوزيف دونتريكاستو، برفقة مواطنه المهندس ورسام الخرائط المائة والبحرية الشهير شارل فرانسو بوثو بوبري، والذي وصل إلى الجزءين الغربي والجنوبي من الجزيرة.
لم يكن دونتريكاستو يعرف مكان تواجد كاليدونيا الجديدة وقد اكتشفها بالصدفة؛ إذ كلفه ملك فرنسا، لويس السادس عشر في العام 1791 بالبحث عن المستكشف جون فرانسو لابيروز الذي اختفى رفقة قافلته ببحر المرجان بالمحيط الهادي في العام 1788، بعد رحلة استكشافية طويلة حوال العالم، انطلقت في العام 1785 من ميناء "بريست" بشمال فرنسا بالبحر الأطلسي ووصل خلالها إلى الأمريكيتين الشمالية والجنوبية وألاسكا وأستراليا.
لم يجد دونتريكاستور أي أثر لفرانسو لابيروز، على الرغم من مروره بالقرب من جزيرة "فانيكورو" التي وُجد بها في العام 1827 حطام سفينة " لايوسول" التي كان على متنها لابيروز"، ولكن الأميرال دونتريكاستور نجح بالمقابل في إيجاد كاليدونيا الجديدة في ربيع 1793.
وبعد اكتشافها تُركت كاليدونيا الجديدة لحالها ولم يُطالب أي بلد أوروبي بحقه في أن تتبعه، فعرف الأرخبيل قدوم بعض المغامرين والصيادين والتجار الأوروبيين، الباحثين عن الثروة التي تكتنزها المنطقة، كالحوت الكبير والسلحفاة البحرية والحطب، ثم تنافس الإنجليز والفرنسيون بإرسال بعض البعثات التبشيرية لنشر المسيحية، البروتستانتية والكاثوليكية بين السكان الأصليين المعروفين باسم "الكاناك".
كاليدونيا الجديدة تحت حكم فرنسا.. ونابليون الثالث أرادها سجناً كبيراً
عقب صعود نابليون الثالث المعروف باسم لويس فيليب لحكم فرنسا في العام 1848، سعى لتوسيع تواجد فرنسا بالمحيط الهادي، كما بحث عن أرضٍ جديدةٍ لإنشاء مستعمرة عقابية للسجناء، فوجد في كاليدونيا الجديدة المكان المناسب لما كان يريده، فأرسل بعثة عسكرية بقيادة الأميرال فيبفرير ديسبوانتس الذي وصل إلى ميناء "بالاد" بأقصى شمال شرق "غراند تير" يوم 24 سبتمبر/أيلول 1853، حيث قام رسمياً بإعلان كاليدونيا الجديدة مستعمرة فرنسية، وذلك قصد تفادي الاستيلاء عليها من طرف بريطانيا التي كانت قد بدأت في التحرك لضمها إليها.
وبعد ذلك بنى الجنود الفرنسيون بقيادة القبطان "لويس ماري فرانسوا تاردي دو مونترافل" معسكراً صغيراً بجنوب غرب جزيرة "غراند تير" في يونيو/حزيران 1854، سُمي بور "دو فرانس" ليكون مركز المستعمرة، والذي سرعان ما توسع وأصبح مدينة صغيرة، أطلق عليها اسم " نوميا" بحلول 2 يونيو/حزيران 1866.
كانت فرنسا تنظر إلى كاليدونيا الجديدة في البداية باعتبارها مركزاً عسكرياً استراتيجياً في إطار تنافسها مع بريطانيا وهولندا على استعمار الأراضي الجديدة بجنوب شرق آسيا وبالمحيط الهادي، ثم بدأت في تعمير الأرخبيل، بداية من سنة 1864، فجلبت عمالاً بنظام السخرة من شرق ومن جنوب شرق آسيا لاستغلالهم في مناجم استخراج معدن "النيكل" الذي تم اكتشافه في نفس العام.
ولم يكن عدد العمال كافياً للقيام بالأشغال الشاقة التي تحتاجها المناجم، خاصة في ظل تفادي فرنسا استغلال السكان الأصليين في أعمال لا يريدونها في إطار سياسة المهادنة معهم، فلجأت فرنسا لجلب السجناء من المدن الفرنسية و من مستعمراتها البعيدة قصد سد العجز في اليد العاملة في كاليدونيا الجديدة.
كانت سجناً لجزائريين معتقلين
تم استقدام أغلب السجناء من الجزائر، إضافة إلى عدد قليل جداً من المغاربة والتونسيين، وكان يُطلق عليهم اسم "العرب"، وبحسب أرشيف بلدية Bourai بكاليدونيا الجديدة، فقد تم جلب 1822 سجيناً عربياً من سنة 1864 إلى 1921.
كان بعض هؤلاء المساجين من أصحاب الجنح المهددة للنظام العام، لكن الكثير منهم كانوا من "المرحلين السياسيين"، أي المنفيين من بلادهم بسبب آرائهم السياسية التي تشكل خطراً على المجتمع، بحسب نفس الأرشيف.
هؤلاء المرحلون السياسيون كانوا من الثوريين الجزائريين المنتفضين ضد الاستعمار الفرنسي الذي احتل البلاد في يوليو/تموز 1830، وأغلبهم من زعماء وقادة ثورة المقراني والشيخ الحداد التي انطلقت يوم 15 مارس/آذار 1871 بمدينة برج بوعريريج واستمرت لسنة واحدة، وشملت عدة مناطق بشرق ووسط الجزائر، وقد استشهد خلالها قائد المقاومة الحاج محمد المقراني بالقرب من عين بسام، فيما تم أسر شقيقه بومزراق المقراني في بداية العام التالي، وذلك بعدما كان قد وقع الشيخ الحداد هو أيضاً رفقة ابنه عزيز أسيرين في يوليو/تموز 1871، ثم تم أسر ابنه الآخر محمد.
قادة ثورة المقراني والشيخ الحداد ضمن قائمة المنفيين
بعد محاكمة هؤلاء الثوار من طرف المستعمر الفرنسي، توفي الشيخ الحداد بسجن قسنطينة بشرق الجزائر، يوم 29 أبريل/نيسان 1873، عن عمر يناهز الـ 84 عاماً، فيما تم نفي رفاقه في السلاح إلى كاليدونيا الجديدة على مراحل، بحيث يؤكد أرشيف بلدية "بوراي" أنّ أحمد بومزراق بن الحاج أحمد المقراني ومحمد بن محمد أمزيان بن الشيخ الحداد وعزيز بن محمد بن محمد أمزيان بن الشيخ الحداد قد وصلوا إلى منفاهم الإجباري يوم 18 يناير/كانون الثاني 1875 على متن سفينة " كالفادوس" رفقة 56 معتقلاً سياسيا جزائرياً آخر.
وكان عدد كبير آخر من الثوار الجزائريين قد وصل يوم 16 أكتوبر/تشرين الأول 1874 على متن سفينة " "لوار"، ويوم 24 يناير/كانون الثاني 1878 على متن سفينة "نافرين"، وذلك إضافة لأولئك الذين تم وصفهم بـ"المجرمين" في حين أنهم كانوا ثواراً ضد الظلم الاستعماري، وفق كتاب "تاريخ كاليدونيا الجديدة".
السجناء الجزائريون في الأشغال الشاقة
عمل بعض السجناء الجزائريين في المناجم، فيما عمل البعض الآخر في المعتقل الكبير لكاليدونيا الجديدة، وقد تم استغلالهم في أعمال شاقة أخرى كالزراعة والبناء وشق الطرقات وتشييد الجسور.
وتم غلق المعتقل رسمياً في العام 1924، ثم تم تسريح السجناء بعد انتهاء مدة اعتقالهم القانونية ولكن دون منحهم حق العودة إلى موطنهم الأصلي، ما حتّم عليهم البقاء في كاليدونيا الجديدة وبناء حياة جديدة وأسر جديدة أيضاً؛ إذ تزوج البعض مع فرنسيات كنّ هنّ أيضاً سجينات بجرائم الحق العام، أو من نساء من السكان الأصليين.
قوانين كاليدونيا الجديدة كانت تحتم على المعتقلين فيها إجبارية البقاء بالجزيرة حتى بعد انتهاء مدة اعتقالهم، ولم يتغير هذا القانون سوى العام 1904، فعاد أحمد بومزراق المقراني و محمد بن محمد أمزيان بن الشيخ الحداد إلى الجزائر في العام 1905، رفقة عدد قليل جداً من المعتقلين السياسيين.
واستطاع عدد آخر من المعتقلين ترك الجزيرة بطرق أخرى؛ إذ نجح عزيز بن محمد بن محمد أمزيان بن الشيخ الحداد في سنة 1878 في الفرار من المعتقل والتسلل إلى إحدى السفن المتجهة الى أستراليا، ووصل بعدها إلى مكة المكرمة.
استقرار الجزائريين والهوية العربية والإسلامية بالجزيرة
بالمقابل، فقد استقر المعتقلون الجزائريون بالمنطقة وبنوا حياتهم الجديدة؛ حيث استفاد الكثير منهم من الأراضي لاستغلالها في الزراعة وفي تربية المواشي، مثلما يرويه أحد أبنائهم، السيد الطيب العيفة لموقع France info التابع للتلفزيون الفرنسي الرسمي، ويؤكد من خلاله الصعوبة التي وجدها والده ومواطنوه، في بداية حياته كرجل حر في الجزيرة.
إذ قال العيفة: "أولئك الذين لم يسبق لهم العمل في الأرض لم يتمكنوا من التعايش مع وضعهم الجديد، فالبداية كانت أكثر من صعبة، كانوا يقومون بزراعة الفاصوليا الجافة والفول السوداني والبازلاء الجافة والذرة، مع الاضطرار إلى التعامل مع المخاطر الطبيعية".
وأضاف :"ولكن لحسن الحظ، فإنّ التضامن كان موجوداً، فجار والدي جاء من نفس القرية التي ينتمي إليها وقد امتهن تربية الأغنام، أما والدي الذي كان مزارعاً فإنه كان يعرف أيضاً كيفية تدريب الثيران للعمل في المزارع، لقد كانا يتعاونان في عملهما بشكلٍ جيدِ".
واستطرد العيفة مشيراً للمعاناة النفسية التي عاشها أبوه وأقرانه بسبب الغربة والبعد الكبير عن الجزائر، فقال: "بالنسبة لهذا الجيل الأول، تظل المعاناة هائلة، فلقد أخبرني إخوتي أنهم كثيراً ما رأوا والدي واضعاً رأسه بين يديه وهو يبكي من أجل وطنه ".
يذكر العديد من المصادر التاريخية أنّ الجزائريين كانوا أول من أدخل الإسلام إلى كاليدونيا الجديدة، وبدأ بعدها توافد مسلمين من جنسيات أخرى أبرزهم من إندونيسيا الواقعة في المحيط الهادئ أيضاً وتحديداً بينه وبين المحيط الهندي، إلى درجة أن 80% من إجمالي 3000 مسلم كاليدوني اليوم، هم من أصول إندونيسية، وفق مقال للكاتبة دلفين بوي نشرته صحيفة "عالم الأديان"، ونقلته صحيفة Le Monde الفرنسية.
لكن ظروف الجزيرة الفرنسية لم تكن مهيأة لاحتضان جالية مسلمة بدرجة كبيرة، بل وحتى أجبر بعض أبناء وأحفاد المسلمين إلى التحول إلى المسيحية؛ إذ كانت المدارس الوحيدة الموجودة في المنطقة هي مدارس مسيحية، وكانت تشترط للدخول إليها تغيير الاسم العربي والتعميد، أي الدخول إلى المسيحية، فالطيب العيفة، مثلاً، الذي يعتبر سياسياً معروفاً في البلاد فإنه مشهور باسم "جون بيار" وليس "الطيب".
ورغم تلك الإجراءات حافظ عدد من أحفاد الجزائريين المنفيين بكاليدونيا الجديدة على الدين الإسلامي وعلى التحدث باللغة العربية، مثلما بقيت بعض المعالم الشاهدة على تواجدهم على غرار المقبرة الإسلامية "نيساديو" التي تم إنشاؤها في العام 1896، والمركز الإسلامي بنفس البلدة الذي تأسس في سنة 1998، وكذلك شعار "الهلال" الموجود رفقة شعارات ديانات أخرى بجداريات بلدية "بوراي".
كاليدونيا الجديدة من مستعمرة إلى إقليم فرنسي.. ومطالبات بالاستقلال
تحولت كاليدونيا الجديدة من مستعمرة إلى إقليم فرنسي في العام 1946 ومُنح سكانها الجنسية الفرنسية، وتملك علماً خاصاً بها رفقة العلم الفرنسي الرسمي، لكن انفصاليين من شعب "الكاناك"، وهم السكان الأصليون للمنطقة، طالبوا بالانفصال عن فرنسا عدة مرات باعتبارها سلطات استعمارية، وشهد عقد الثمانينيات من القرن العشرين صدامات وأعمال عنف بين القوات الفرنسية والسكان الأصليين لهذه الجزر.
ذروة هذه الصدامات وصلت إلى قتل 4 من الشرطة الفرنسية واحتجاز 23 آخرين رهائن في أحد الكهوف من قبل مجموعات انفصالية من شعب الكاناك، أعقبها شن فرنسا هجوماً عسكرياً أدى إلى مقتل 19 من شعب الكاناك وجنديين، ولتهدئة الأوضاع أبرمت فرنسا اتفاقاً مع سكان المنطقة لتنظيم 3 استفتاءات قبل 2022.
وقد تم تنظيم استفتاءات لتقرير المصير، أجري أولها في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، وآخر في أكتوبر/تشرين الأول 2020، ثم ديسمبر/كانون الأول 2021، لكن النتائج جاءت برفض الاستقلال عن فرنسا. وهنا؛ نذكر أن الهوية الفرنسية والعرق الأوروبي بات يشكل نسبة كبيرة من سكان الجزيرة البالغ عددهم 268 ألف نسمة؛ إذ يمثلون 27.1% من السكان، وفق تقرير شبكة الإذاعة البريطانية BBC.
وعلى الصعيد الاقتصادي بين الجزيرة وفرنسا، تعتبر كاليدونيا الجديدة من أكبر منتجي النيكل كروم المستخدم في صناعة الإلكترونيات، لذلك تعتبر فرنسا هذه الجزيرة الواقعة شرق أستراليا، امتداداً استراتيجياً واقتصادياً هاماً لها في منطقة المحيط الهادي، وعلى الجانب الآخر تتلقى هذه الجزر حوالي 1.5 مليار دولار من فرنسا سنوياً.
أما على الصعيد السياسي، فيمثل كاليدونيا الجديدة نائبان في البرلمان الفرنسي، وعضوان آخران في مجلس الشيوخ، ولها مجلس نيابي ينتخب رئيساً تنفيذياً، ويملك صلاحيات وضع سياسات الأمن والتعليم والقوانين المحلية للجزيرة.