في العام 1909 انطلق المستكشف الدنماركي إجنار ميكلسن في مهمّة لاستعادة الخرائط ودفاتر اليوميات المفقودة، التابعة لبعثة استكشافية سابقة ذهبت إلى الساحل الشمالي الشرقي لجزيرة غرينلاند، ليجد ميكلسن نفسه، إلى جانب مهمّة الاستكشاف، في مواجهة صراعٍ للبقاء على قيد الحياة، وسيحتاج إلى 3 سنوات حتى يعود إلى وطنه من جديد.
ففي العام 1891، أعدَّ مستكشف القطب الشمالي، روبرت إدوين بيري، رسماً تخطيطياً للساحل الشرقي لجزيرة غرينلاند، ورسم خريطة لقناة تفصل بين الجزء الشمالي الشرقي من الجزيرة وبين بقية أراضي الجزيرة، الأمر الذي يسمح لأمريكا بالمطالبة بهذا الجزء المفصول.
حفَّز هذا الادّعاء عدداً من البحّارة الدنماركيين للذهاب في مهمّة استكشافية خطيرة في العام 1907، لدحض المحاولات الأمريكية للمطالبة بهذا الجزء من غرينلاند، وتأكيد السيادة الدنماركية على أراضي الجزيرة بأكملها.
لكن هؤلاء البحّارة لم يعودوا إلى الوطن، الأمر الذي دفع بالدنماركي إجنار ميكلسن إلى الذهاب في رحلةٍ استكشافية خاصة، من أجل العثور عليهم، فعانى الأمرّين قبل أن يتمكّن من العودة سالماً.
فماذا حصل؟ وما تفاصيل القصّة؟
في أغسطس/آب 1909 علقت سفينة ميكلسن في جليد القطب الشمالي، على بعد حوالي 200 ميل من المكان الذي كان يعتقد أنّ أسلافه البحّارة المستكشفين قد ماتوا فيه.
ووفقاً لما ذكره في كتابه Two Against the Ice بدأ ميكلسن رحلته برفقة 6 رجال، لكنه سيخوض مغامراتها -الأقرب إلى مصائب- مع شخصٍ واحد مبتدئ في عالم الرحلات الاستكشافية، ويتحمَّلان معاً قسوة شتاءَين وسط جليد القطب الشمالي.
حاول الكتاب، الذي تحوَّل إلى فيلمٍ عُرض على شبكة نتفليكس، نقل بعضاً من الخطورة والعذاب في عالم الاستكشاف بأوائل القرن الـ20. فقد واجه إجنار ميكلسن وزميله إيفر إيفرسن مصاعب مُروّعة من أجل البقاء على قيد الحياة.
قبل القطب الشمالي.. فترة شباب إجنار ميكلسن
وُلد إجنار ميكلسن في الـ23 من ديسمبر/كانون الأول 1880، في مدينة بروندرسليف الدنماركية، وانجذب منذ طفولته إلى حياة البحَّارة ومغامرات القطب الشمالي والاكتشافات غير المسبوقة، سرعان ما تحوّل هذا الانجذاب إلى شغفٍ للقيام بالأمر نفسه.
كان ميكلسن يبلغ من العمر 14 عاماً فقط عندما أبحر لأول مرّة بمفرده، فقد امتلك إصراراً شديداً على تحقيق حلمه بأن يصبح مستكشفاً حقيقياً. يُقال إنّه سار 320 ميلاً من ستوكهولم إلى غوتنبرغ في العام 1896، لإقناع المستكشف السويدي سالومون أوغست أندريه بأن يصطحبه في رحلته لاستكشاف القطب الشمالي بالمنطاد.
لم يكن إجنار ميكلسن يعرف ما سيحدث في هذه الرحلة، لكنه كان محظوظاً بسبب رفض أندريه طلبه. فقد انتهت رحلة المستكشف السويدي نهاية مميتة، في أكتوبر/تشرين الأول 1897، عندما فشل منطاد الهيدروجين في الوصول إلى القطب الشمالي، ولَقيَ ركّابه الثلاثة حتفهم.
لكن ومع ذلك، استطاع إجنار ميكلسن في العام 1900 الانضمام إلى رحلةٍ استكشافية بقيادة السير جورج كارل أمدروب، إلى شرق غرينلاند.
عمل ميكلسن في العام 1903 رسّامَ خرائط في بعثة إيفلين بالدوين الاستكشافية إلى فرانز جوزيف لاند، وهو أرخبيل في القطب الشمالي لا يستخدمه حالياً سوى الجيش الروسي.
وفي العام 1906، موّل والد الجيولوجي الأمريكي إرنست دي كوفن ليفينغويل، رحلة استكشافية في القطب الشمالي لرسم خريطة للمنطقة، التي قيل إنّ سفن صيادّي حيتان قد رصدتها في بحر بيوفورت، شمال نقطة بارو بولاية ألاسكا.
وحينها انطلق أعضاء الرحلة الاستكشافية مع 5 آلاف دولار ومركبٍ شراعي من دون محرّك، من أجل العثور على هذه المنطقة، لكنهم اضّطروا للتوقف في جزيرة فلاكسمان، على بعد 200 ميل من هدفهم، ليتابعوا مسيرتهم عبر الجليد.
وبعد اجتياز 120 ميلاً على مدار 60 يوماً، أدرك ليفينغويل وميكلسن أنّ المسار مهلك، وعادا مُجدَّداً ليجدا السفينة قد غرِقت. بينما قرّر ليفينغويل البقاء لدراسة الجليد، كان لدى إجنار ميكلسن خطط أخرى.
بدأ ميكلسن رحلة عودته إلى الوطن، وقطع 2300 ميل على زلاجة وسيراً على الأقدام. واصل طريقه عبر مدينة فيربانكس وبلدة فالديز وخليج ألاسكا، ولم تكن عودته سوى إعلان عن وجود مستكشف متمرّس حقاً، رغم أنّ أكبر تحدٍّ لميكلسن لم يكن قد جاء بعد.
رحلة إجنار ميكلسن إلى القطب الشمالي
قرَّر فريق من المستكشفين الدنماركين، وهم لودفيغ مايليوس إريكسن، ونيلز بيتر هوج هاغن، ويورغن برونلوند، الذهاب في رحلةٍ استكشافية عام 1907 لإثبات أنّ غرينلاند هي جزيرة واحدة موحدة تخصّ الدنمارك فقط.
لكنهم اعتمدوا في مسعاهم على خرائط المستكشف الأمريكي روبرت إدوين بيري، لشمال شرق غرينلاند، التي تضمّنت "قناة بيري" الافتراضية التي تقسّم الجزيرة إلى جزئين.
ضلَّ الرجال طريقهم في القطب الشمالي بسبب هذه الخرائط غير المكتملة، وسرعان ما وجدوا أنفسهم عالقين وسط الجليد. وبينما عُثر على جثة يورغن برونلوند في العام 1908 مع خرائطه ومذكراته، لم يُعثر قط على جثة الزميلين الآخرين لودفيج مايليوس إريكسن ونيلز بيتر هوج هاغن.
عندما عرض عملاق الصحافة البريطانية، اللورد نورثكليف (ناشر صحيفة Daily Mirror)، على إجنار ميكلسن تمويل رحلة استكشافية عام 1909 لتحديد مكان زملائه، لم يستطع إجنار ميكلسن الرفض، ومع ذلك طالب ميكلسن بتمويل الرحلة بأموال دنماركية.
وافقت حكومته على تمويل نصف تكلفة الرحلة، وفتحت باب التبرّعات أمام الدنماركيين لجمع بقية المبلغ.
وبحسب صحيفة "نيويورك تايمز"، فقد اختار ميكلسن طاقماً مكوَّناً من 6 رجال مع سفينة شراعية تزن حوالي 45 طناً، تُسّمى "ألاباما"، وتعمل بمحرّك بقوة 15 حصاناً.
أبحرت "ألاباما" من كوبنهاغن في 20 يونيو/حزيران 1909، ليكتشف طاقم البعثة فيما بعد أنّ ميكانيكي السفينة مدمن كحول غير كفء. في طريقها إلى غرينلاند توقفت "ألاباما" في أيسلندا، حيث تطوّع ميكانيكي شاب عديم الخبرة بالرحلات الاستكشافية، ويُدعى إيفر إيفرسون، أن يحلّ مكان الرجل مدمن الكحول.
تعرّضت بعثة "ألاباما" الاستكشافية لانتكاسة عندما وصلت إلى جزر فارو، وكان طاقم البعثة قد خطَّط لاستخدام كلاب جرّ العربات، حتى يتسنّى لها القيادة عبر الجليد في غرينلاند، لكن ولسوء الحظ أُصيبت الكلاب بداء الكلب، ورغم عثورهم على بدائل في جزيرة أماساليك، فإن وصولهم قد تأخر إلى غرينلاند حتى أواخر أغسطس/آب.
بحلول ذلك الوقت، أصبحت السفينة محاصرة في جليد جزيرة شانون، الأمر الذي اضطر ميكلسن إلى جعل طاقمه يقيم في المكان، في 27 أغسطس/آب 1909. ولسوء الحظ كانوا على بعد 200 ميل من الموقع الذي قيل إنّ المستكشف مايليوس إريكسن قد قضى فيه الشتاء قبل أن يموت.
في 25 سبتمبر/أيلول انطلق إجنار ميكلسن وإيفرسن، بينما بقي باقي أفراد الطاقم في مكانهم، لكن بعد العثور على أدلة تفيد بأنّ أعضاء الطاقم المفقودين قد قطعوا مسافة 500 ميل شمالاً، عاد ميكلسن وإيفرسن إلى سفينة "ألاباما" للاحتماء خلال شهور الشتاء، ثم يواصلون مسيرتهم مع بداية فصل الربيع التالي.
كيف صمد ميكلسن وإيفرسن في مواجهة الجليد
كما أرَّخ في كتابه Lost in the Arctic الصادر عام 1913، غادر ميكلسن وإيفرسون السفينة مرة أخرى، في مارس/آذار 1910. وبحلول مايو/أيار، عثرا على دفتر يوميات مايليوس إريكسن، وأكدا عدم وجود "قناة بيري"، لكن الصراع الأشرس قد بدأ للتو.
حلَّ الصيف وكان الجليد الذي اجتازه إجنار ميكلسن وزميله إيفرسون بالزلاجة للوصول إلى الموقع يذوب بسرعة. استغرق الأمر منهما حوالي 8 أشهر للعودة إلى السفينة، ولجأ الزميلان طوال هذه الفترة إلى تناول طعام كلابهما من أجل البقاء على قيد الحياة، وعانيا من نوبات هلوسة يومية بعد وفاة آخر كلب معهما.
عندما نجحا أخيراً في العودة إلى سفينة ألاباما، وجدا أنَّ بقية زملائهما قد تخلَّوا عنهما، بعدما وجدوا سبيلاً للعودة إلى الوطن على متن إحدى السفن المتّجهة إلى الدنمارك.
هنا سيضطر ميكلسن وإيفرسون لتحمّل أهوال فصلَيْ شتاء آخرين في غرينلاند، والعيش على حصص غذائية متروكة من رحلات استكشافية سابقة، مع محاولة النجاة من الحياة البرية المفترسة.
وبحسب موقع ati، استخدم المستكشفان أماكن احتمائهما في جزيرة شانون لأطول فترة ممكنة، لكن لم يكن ذلك كافياً لفصل الشتاء الطويل القارس القادم؛ لذا استخدم الرفيقان ألواحاً خشبية من حطام سفينة "ألاباما" من أجل بناء كوخ صغير للاحتماء فيه.
وعندما بدا لهما أنَّ الأمل في النجاة مفقود تماماً، ظهرت سفينة نرويجية وأنقذتهما في 19 يوليو/تموز 1912.
لم تثبط تلك الرحلة المميتة عزيمة إجنار ميكلسن تجاه المغامرة والاستكشاف، ففي العام 1924 قاد رحلة استكشافية جديدة إلى بلدية سيرمرسوك في شرق غرينلاند. وفي العام 1932 قاد طاقماً مكوّناً من 8 أفراد، في "البعثة الثانية لشرق غرينلاند"، لاستكشاف المنطقة الجيولوجية بين كيب دالتون وكانجرلوسواك.
رَوى ميكلسن تفاصيل مغامراته الشاقة في العديد من الكتب، وحصل على تكريمٍ وطني من الحكومة الدنماركية في عيد ميلاده التسعين في العام 1970، بالإضافة إلى إطلاق اسمه على واحدة من سفن خفر السواحل الدنماركية وسلسلة جبال في غرينلاند.
تُوفي ميكلسن في الأول من مايو/أيار عام 1971، بعد أن أصبح واحداً من أهمّ وأشهر المغامرين المستكشفين، الذين لَطالما حلم في طفولته أن يكون مثلهم.