تخيل أن تُغلق المعابر التجارية البحرية والبرية، وأن تقفر الشوارع والأسواق فلا يجرؤ الناس على التجوال فيها خوفاً على حياتهم، خاصة أن هناك الكثير من الجوعى الذين احتفظوا في بيوتهم بخطاطيف وكلاليب لصيد المارة من فوق الأسطح والتهامهم بسبب مجاعة شديدة أدت إلى انعدام الغذاء.
لا نروي لكم حكاية هوليوودية من ضرب الخيال، بل نحدثكم عن مأساة حقيقية أصابت مصر في عهد الخليفة الفاطمي المستنصر بالله، وعُرفت باسم "الشدة المستنصرية".
المستنصر بالله 60 عاماً من الحكم هوت فيها الدولة الفاطمية
حكم الخليفة الفاطمي المستنصر بالله قرابة 60 عاماً تهاوى فيها ملك الفاطميين ووقعت واحدة من أعظم المجاعات التي عرفتها مصر، واقترن اسمها بالخليفة فسميت "الشدة المستنصرية".
كان المستنصر بالله الخليفة الفاطمي الثامن والإمام الثامن عشر في سلسلة أئمة الشيعة الإسماعيلية، وكانت الدولة الفاطمية في أوجها حين اعتلى العرش قبل أن يبلغ من العمر ثماني سنوات. فقد اتسعت الدولة في بدايات عهده اتساعاً هائلاً وامتلأت الخزائن بالأموال، لكن أحوال الدولة الفاطمية بدأت بالتغير بعد موت وزيره القوي علي بن أحمد الجرجرائي.
إذ بدأت والدة الخليفة، السيدة رصد، بالتدخل بشؤون الدولة وتعيين الأشراف والوزراء، وعصفت بالبلاد حالة من الفوضى السياسية فاشتعلت الفتن والثورات بين فرق الجيش والقادة المتنافسين على المال والسلطان.
وخرجت الكثير من البلاد عن سلطان الخليفة الفاطمي، فعادت بغداد إلى الخلافة العباسية، وقُطعت الخطبة للمستنصر في مكة والمدينة واستولى النورمان على صقلية، وهكذا اختُزلت الدولة التي كانت تمتد من أقصى المحيط الأطلسي إلى الفرات في مصر فقط.
لكن حتى مصر لم تكن تلك الدولة القوية المليئة بالخيرات كما عهدها الفاطميون فقد عصفت بها مجاعة مأساوية استمرت 7 سنوات أهلكت البلاد والعباد.
الشدة المستنصرية.. من أكل الموتى إلى أكل الأحياء
بدأت الحكاية مع جفاف مياه النيل في مصر مدة 7 سنوات عُرفت بـ"السبع العجاف". حدث ذلك في نهاية عصر الخليفة الفاطمي المستنصر بالله في القرن الحادي عشر.
وكأي مجاعة اعتيادية، بدأ الأمر بنقص شديد في الموارد الغذائية نتيجة جفاف الأراضي الزراعية فارتفعت الأسعار بشكل غير مسبوق، ثم تطور بأن تصحرت الأرض وهلكت معظم الحيوانات المدجنة فاشتد جوع الناس وكثر الفساد، وخرجت النساء إلى الشوارع يتظاهرن ضد الغلاء فيما وصف بأنه أول مظاهرة نسائية في تاريخ مصر.
فقد بيعت الدار التي يبلغ ثمنها 900 دينار بـ90 ديناراً ليشتري أهلها الدقيق، وبيع الخبز كما تباع التحف، وبلغ ثمن شربة الماء ديناراً.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد خرجت الأمور عن السيطرة تماماً بعد ذلك، وبلغ الجوع من الناس إلى حد أنهم راحوا يسرقون الخبز ويأكلون القطط والكلاب، حتى إن وزير الخليفة ذهب للتحقيق في أحد الحوادث راكباً ظهر بغلته، فأخذها الناس الجياع وأكلوها وفقاً لما ورد في كتاب " اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء" للمؤرخ تقي الدين المقريزي.
وقيل إن الخليفة نفسه لم يسلم من المجاعة، فاضطر لبيع ما على مقابر آبائه من رخام، وتصدقت عليه ابنة أحد علماء زمانه.
أما الأدهى والأمر فهو ما ذكره المقريزي أيضاً في كتابه وصدق عليه ابن إياس، حول أكل الناس الجياع في مصر لجيف الموتى؛ بل وصل بهم الأمر أيضاً لخطف الأحياء وقتلهم بغرض أكل لحومهم.
فقد ذكر أولئك المؤرخون أن الناس صنعوا الخطاطيف والكلاليب واحتفظوا بها في بيوتهم لاصطياد المارة في الشوارع من فوق الأسطح وأكل لحومهم، وبعد انتشار هذه الظاهرة أصبحت الشوارع خالية مقفرة، وتراجع عدد سكان مصر ليصل أقل معدل في تاريخها.
اقتراح ابن الهيثم و الصراع على السلطة
يُذكر أن العالم المسلم ابن الهيثم قد زار مصر في عصر الدولة الفاطمية وأشار على الخليفة ببناء سد عالٍ على النيل لحل مشكلة الجفاف الذي قد يسبب مجاعات تمتد لسنوات، لكن اقتراحه قوبل بالرفض، ويروي المؤرخون أن مصر كان من الممكن أن تتجنب ما حدث أيام الشدة المستنصرية لو نفذ الفاطميون اقتراح ابن الهيثم.
علماً أن منسوب مياه النيل المنخفض لطالما جلب الأزمات لسكان المنطقة، حتى إن محمد علي رفض حكم مصر إلى أن انتهت أزمة انخفاض منسوب المياه والتي حسبت تبعاتها في ذاك الوقت على سلفه الوالي العثماني خورشيد باشا.
مع ذلك يرجع بعض المؤرخين الشدة المستنصرية إلى أسباب سياسية إلى جانب انحسار مياه النيل، ففي عهد المستنصر بالله كثرت الحروب بين الأمراء الطامعين في الوزارة، وكان بينهم الأمير الحسن بن الحسين الحمداني الذي دخل في صراع مع الخليفة نفسه بعد أن عزله المستنصر من ولاية الشام، فسافر ابن الحسين إلى مصر وجند البدو وحاصر القاهرة قاطعاً عنها المؤن والطعام، وتصادف ذلك مع وقت انخفضت فيه مستويات المياه في نهر النيل فكان وقع الشدة مضاعفاً على الناس.
حقائق تاريخية أم تهويل مبني على الحكايات الشعبية؟
لا خلاف على أن الشدة المستنصرية قد وقعت بالفعل وامتدت لسبع سنوات عانى فيها الناس من الجوع وغلاء أسعار الأغذية ثم فقدانها فضلاً عن الفساد وانعدام الأمن والسرقات، لكن مسألة أكل الناس للجيف ولحوم البشر كانت محل تشكيك من قِبَل البعض الذين يعتقدون أنها مجرد مبالغات وتهويل لما حدث بالفعل.
إذ يرى باحثون في التاريخ أن رواية المقريزي عن الشدة المستنصرية يغلب عليها المبالغة والتهويل، وذلك بسبب اعتماده على الروايات الشعبية من جهة، ولأنه ألَّف كتابه الذي يتحدث عن هذه الشدة بعد مرور قرابة 300 عام على وقوعها.
وذكر الباحث في شؤون التاريخ والآثار عماد حمدي لـ"الجزيرة نت" أن هناك دلالات تشير إلى أن رواية المقريزي مليئة بالمغالطات والمبالغات، منها حكاية بدر الدين الجمالي وهو وزير المستنصر بالله الذي استقدمه الخليفة من الشام ليقضي على الاضطرابات التي شهدتها مصر بسبب المجاعة.
فقد بدأ رجال المستنصر بالصراع مع بعضهم البعض في مصر، فضلاً عن الاضطرابات التي حلَّت في البلاد بسبب ندرة الطعام وغلاء الأسعار، لكن الجمالي استطاع أن يقوم الأمور ويعيدها إلى نصابها، كما أنه أقام الجسور وطهر الترع فاستطاع الفلاحون أن يعودوا للزراعة من جديد وبدأت الأسعار بالتحسن.
ووفقاً للباحث، لو أن الخليفة كان قد باع كل ما يملك لما استطاع أن ينفق على قوات الجمالي، ولو أن المصريين أكلوا بعضهم بالفعل، كما يقول المقريزي، لكانوا قد أكلوا قوات بدر الجمالي، وأكلوا الخليفة نفسه.