اشتهرت مصر خلال عقود طويلة من تاريخها الحديث بالعديد من الطقوس والشعائر التي سُنَّت وارتبطت بالأعياد الدينية والأيام ذات الأهمية أو القيمة الدينية في الإسلام، ومن بين تلك المناسبات ما كان يُعرف بـ"ليالي الوقود".
الاحتفاء بالطقوس الدينية بدأ من الأزهر الشريف
لم يكن جامع الأزهر الشريف في عهد الدولة الفاطمية (909 – 1171)، مجرد مسجد ضخم وجامعة للعلوم والتدارُس فحسب، بل كان مركزاً للكثير من الطقوس والشعائر والمناسبات الرسمية الأخرى التي احتفت بكل ما هو ذو قيمة وأهمية بالنسبة للمسلمين في مصر.
إذ كان الأزهر بمثابة المعلم الدولي الأكبر الذي يتم من خلاله الوقوف على الأحداث الهامة في الدولة، لذلك لطالما كانت المناسبات الدينية أو المتعلقة بالإسلام في مصر يتم الاحتفاء بها بشكل خاص انطلاقاً من تلك المؤسسة. ومن تلك المظاهر أنه كان مركزاً للاحتفال الرسمي بالمولد النبوي وأيام الوقود التي تُعلن قرب حلول شهر رمضان وتتم فيها الرؤية، أو تلك التي تشير لحلول عيد الفطر وتتم فيها الرؤية أيضاً.
وفي الثاني عشر من شهر ربيع الأول من كل عام هجري، كان يتوجه قاضي قضاة البلاد إلى الجامع الأزهر برفقة موظفين يحملون ألواحاً عامرة بالحلوى أُعدت خصوصاً في قصر الخلافة لكي يتم تفريقها على الحاضرين في الجامع قبل أن يتم التوجه لقصر الخلافة لاستكمال مراسم الاحتفال بالمولد النبوي.
وقد كانت من بين المراسم البارزة في الدولة ما كان يُسمى "ليالي الوقود"، وهي الأيام التي تسبق أول ومنتصف شهري شعبان وشهر رمضان، وكانت تُعد من أشهر المواسم التي اختصت بها الدولة الفاطمية.
وقيل أيضاً إنها كانت في 4 ليالٍ فقط، بحسب موقع تاريخ مصر، وهي أول شهر رجب ومنتصفه، وأول شهر شعبان ومنتصفه.
الاحتفاء بليالي الوقود في القاهرة
وخلال الأيام التي عُرفت بـ"ليالي الوقود"، كانت تتم إضاءة جميع المساجد بداية من غروب الشمس، في استعداد لاستقبال الأيام المباركة التي تحمل أهمية وقيمة دينية كبرى في الإسلام، فتبدو القاهرة متلألئة بالقناديل والأنوار.
وكان من المعتاد أن تبدأ تلك الاحتفالات من الجامع الأزهر ثم دار قاضي القضاة ثم قصر الخليفة.
وخلال ليالي الوقود، كان الناس يخرجون إلى الجامع الأزهر الذي تضاء حافاته بالمشاعل المُضاءة بالنيران، ويُعقد في صحنه مجلس حافل من القضاة والعلماء برئاسة قاضي القضاة.
وبحسب العلامة والمؤرخ تقي الدين المقريزي (1364م – 1442م)، كان يتم وصف ليالي الوقود بهذا الاسم لكثرة قناديلها وزيوتها المُضاءة في شوارع القاهرة.
وعن بعض صور الاحتفال بليلة الرؤية في التاريخ، قال ابن إياس (1448 – 1523م) في وصفه لليلة الرؤية في أيامه في كتابه "بدائع الزهور": "في ليلة رؤية الهلال يحضر القضاة الأربعة بالمدرسة المنصورية إضافة للمُحتسب"، ثم عندما "يثبت رؤية الهلال ينفض المجلس وتشتعل الفوانيس والمنجنيق والمشاعل والشموع الموقدة، كما تُقاد الشموع على الدكاكين والتنانير والأحمال الموقدة بالقناديل في كل مكان".
في حين يقول الجبرتي (1756 – 1825) في "عجائب الآثار": "في ليلة الرؤية كانت مصر تتزين بآلاف القناديل والمصابيح في تلك الليلة، ويقوم كل شخص بتزيين واجهة حانوته، وينتظر كل شخص مع خلانه احتفال موكب المحتسب، فكانت القناديل تضاء في الأسواق والشوارع".
الطقوس الشيعية وحزن "عاشوراء"
وكان الشعب المصري يستقبل هذه المواسم بشعائر احتفالية فيما عدا يوم عاشوراء، الذي كان له ذكرى حزينة وطقوس خاصة لدى المذهب الشيعي للدولة، فقد كان يعتبر يوم حزن تعطل فيه الأسواق ويخرج المنشدون إلى الأزهر ليلقوا الأناشيد في رثاء الحسين.
وبحسب كتاب "الفاطميون: تاريخهم وآثارهم في مصر"، في نفس اليوم كان يُقام سماط يُسمى "سماط الحزن"، ويتم ترتيبه في بهو بسيط، وكان يقدم عليه خبز الشعير والعدس والجبن ويحضره الخليفة ملثماً ومرتدياً الثياب القاتمة للتعبير عن الحزن والعزاء.
وبالإضافة إلى إحياء الأيام الأخيرة من شعبان، وليالي شهر رمضان بالكامل وتزويد المساجد بالوقود اللازم لإضاءتها أيضاً في ليالي الوقود، كان القائمون على قصر الخليفة يوفرون كميات ضخمة من السكر والدقيق لصناعة حلوى رمضان وتهيئة الموائد للعامة.
إذ تولت تلك المهام جهة سُمِّيَت بـ"دار الفطرة"، التي حرصت على ترتيب إعداد الكعك وما شابه لتوزيعه في ليالي الفطر والعيد مع ختام شهر الصوم، وكانت تعد بالقناطير لتوزع على مجموع المصريين في العاصمة، القاهرة.
سماط الخليفة لإعداد الولائم
وبحسب كتاب "الخطط المقريزية"، كان الخليفة يحرص على إقامة مائدة إفطار رمضان تُسمى بـ"السماط" بحضور رؤساء الدواوين، والحاكم، والوزراء. وكانت في هذا الوقت القاهرة مدينة خاصة للخليفة وخاصته، وفرق الجيش المختلفة.
تعددت الأسمطة الرسمية التي كان يُعدُّها الخليفة الفاطمي بنفسه ويتوسطها، فكان السماط يُمد في "قاعة الذهب" بالقصر الشرقي الكبير في ليالي رمضان وفي العيدين وليالي الوقود الأربعة والمولد النبوي، إضافة إلى خمسة موالد أخرى: مولد الحسين، ومولد السيدة فاطمة ومولد علي بن أبي طالب ومولد الحسن، ومولد الإمام الحاضر، بالإضافة إلى "سماط الحزن" في يوم عاشوراء.
فإذا كان اليوم الرابع من شهر رمضان، تم ترتيب عمل السماط كل ليلة بقاعة الذهب إلى السادس والعشرين من ذات الشهر، ويُدعى إليه قاضي القضاة، بحسب موقع خلدون للأحداث التاريخية.
أما الأمراء ففي كل ليلة منهم كانت تحضر مجموعات منهم بالتناوب بصحبة أولادهم وأهاليهم، ويحضر الوزير فيجلس في صدر السماط، وإن تأخر كان ولده أو أخوه هو المتوسط للسماط.
وقد قال المقريزي واصفاً سماط رمضان بقاعة الذهب: "كان قد تقرر أن يُحضر له أربعون صينية، حلوى وكعك وأطلق برسم مشاهد الضرائح الشريفة، لكل مشهد سكر وعسل ولوز ودقيق وشيرج، وتُحضر خمسمئة رطل أخرى من الحلوى تُفرَّق على المتصدرين والقرّاء والفقراء"، بحسب صحيفة الوطن المصرية.
وتابع أن الخليفة كان يجلس في منظرة القصر، أو الشرفة العلوية، ويتوافد كبار رجال الدولة فيقبِّلون الأرض بين يديه ويتلو المقرئون القرآن الكريم، ثم يتقدم خطباء: الجامع الأنور وجامع الأزهر وجامع الأقمر، مشيدين في خطبتهم بمناقب الخليفة، ثم ينشد المنشدون ابتهالات وقصائد عن فضائل الشهر الكريم.
نهاية للطقس المعروف بسقوط الخلافة الفاطمية
ومع أن تلك الطقوس استمرت لسنوات طويلة خلال الخلافة الفاطمية، بحلول عام 1169 وضع صلاح الدين الأيوبي نهاية للدولة الفاطمية وطقوسها بالكامل.
إذ استقل بمصر ودعا للخليفة العباسي، وبادر حُكام الدولة الأيوبية بإزالة كل مظاهر المذهب الشيعي وطقوسه من الممارسات في الدولة. ففقد الأزهر من بين تلك الصور، مناسبات الاحتفال الرسمي بليالي الوقود والمولد النبوي وغيرها من المناسبات.