لطالما كانت روايات الجواسيس الذين استطاعوا قلب موازين الأحداث التاريخية محط إعجاب واهتمام الكثيرين، خاصة فيما يتعلق بقدراتهم الفائقة والذكاء في التعامل مع العدو بدهاء من أجل الحصول على المعلومات القيمة.
وبالرغم من الكثير من الغموض الذي يحيط بقصتها، كانت ماتا هاري، الراقصة المحترفة وعاملة الخدمات الجنسية إحدى تلك الشخصيات، إذ يُعتقد أنها استغلت صلاتها بذوي النفوذ لتصبح جاسوسة لفرنسا خلال الحرب العالمية الأولى، وذلك قبل أن يتم إعدامها عام 1917 للاشتباه في كونها عميلة مزدوجة.
الجاسوسة الغامضة
رفضت عصب عينيها، وابتسمت قبل موتها بحسب بعض الروايات لجلاديها. هي مارغريتا زيل، المعروفة باسم شهرتها "ماتا هاري"، الراقصة التقليدية والجاسوسة التي تم إعدامها في سن الـ41 على يد فرقة إعدام خارج باريس، في 15 أكتوبر/تشرين الأول 1917.
تم تصويرها على أنها نموذج أصلي للمرأة المقاتلة وواحدة من أعظم الجواسيس في التاريخ، وقد ألهمت حياتها الأفلام والمسرحيات الموسيقية والباليه والكتب، بما في ذلك أحد أعمال الكاتب العالمي باولو كويلو "الجاسوس: رواية ماتا هاري".
ومع ذلك، يزعم البعض أنها- فيما يتعلق بالمسائل العسكرية- كانت فقط تستمتع بقليل من الثرثرة مع الضباط على جانبي جبهة القتال في الحرب العالمية الأولى.
لكن من وجهة نظر راسل وارين، مؤلف كتاب ماتا هاري: القصة الحقيقية، فإن الأسطورة تفوق ما تم تداوله عنها بكثير، وفقاً لموقع History Hit التاريخي.
من هي ماتا هاري؟
ولدت عام 1876 في هولندا، وكانت ابنة تاجر قبعات كان مزدهراً ثم ما لبث أن أفلس وأصبح بلا دخل معقول لكفاية أسرته. وفي سن الـ18، تزوجت الفتاة من ضابط في الجيش الاستعماري الهولندي.
ونتيجة لمنصبه العسكري في إندونيسيا (التي كانت تسمى آنذاك جزر الهند الشرقية الهولندية)، استقرا هناك وأنجبا طفلين- توفي أحدهما بعد ولادته بفترة وجيزة.
وبحسب موقع History للتاريخ، كان زواجهما غير سعيد وغير مخلص أو وفي من كلا الطرفين، ويُعتقد أن الزوج في بعض الأحيان كان يؤذي زوجته وطفله جسدياً وفقاً لروايات.
عند عودتهما إلى أوروبا في عام 1902، انفصل الزوجان في النهاية. وعند استقرارها في باريس، أعادت المطلقة تعريف نفسها كراقصة تعرٍّ ادعت أنها من أصل شرقي. وأطلقت على نفسها اسم ماتا هاري، أو "عين الفجر" في لغة الملايو الأصلية بإندونيسيا.
وابتداءً من عام 1905، جذبت ماتا الحشود في العواصم الثقافية في أوروبا. خاصة مع نوعية رقصها واستعراضها الإباحي المبتكر في ذلك الوقت.
واستمرت حياتها المهنية حوالي عقد من الزمان حتى خسرت أمام العارضات الأصغر سناً والأكثر نشاطاً منها.
ومع ذلك، حافظت ماتا هاري على جزء ضخم من جمهورها بسبب سحر شخصيتها وبراعتها في الحديث بعدة لغات بطلاقة، فتمكنت من تحقيق النجاح كعاملة للخدمات الجنسية، واستطاعت إغواء الأثرياء والشخصيات النافذة، بما في ذلك كبار المسؤولين الحكوميين من مختلف الدول.
نفوذ كبير وعشاق رفيعو المستوى
نظراً إلى أن موطنها ظل محايداً خلال الحرب العالمية الأولى، فقد سُمح لها بعبور الحدود بسهولة والسفر دون مشكلات بشكل نسبي. ومع ذلك، فإن أسفارها وأسلوب حياتها جذبا الانتباه لها: فقبل الحرب، كان الدولة ترفض سلوكها بشكل أخلاقي، لكن خلال الحرب، أُثيرت حولها الشكوك فيما يتعلق بالتجسس.
وكان من بين عشاقها وزبائنها الدائمين الرائد أرنولد كالي، الملحق العسكري الألماني، وفقاً لموقع Medium.
وسواء كان فعلاً قد بدأ يعتبرها مصدر إزعاج أو جاسوسة ضده، فقد سعى للتخلص منها. لذلك، باستخدام رمز يعرف أن الفرنسيين قد اخترقوه، أرسل رسالة لألمانيا قام بتعريفها خلالها على أنها جاسوسة لألمانيا.
تم القبض على ماتا هاري في فندق فخم في باريس في فبراير/شباط عام 1917، وجرت محاكمتها المغلقة بعد خمسة أشهر.
وعلى الرغم من أن الادعاء ألقى باللوم عليها في مقتل 50.000 جندي فرنسي خلال الحرب العالمية الأولى، إلا أنه لم يتم تقديم أي دليل أو تفسير محدد حول كيفية تسببها في هذا العدد الهائل من الوفيات.
كتبت بات شيبمان في كتابها "الحب والكذب، الحياة المجهولة لماتا هاري"، بحسب مجلة Times الأمريكية، أنه لم يحدد أحد على الإطلاق أي هزيمة محددة أو تسريب معلومات بعينه يمكن إلقاء اللوم عليها فيه، الأمر مجرد "مزيج من الأساطير".
وعلى الرغم من أن حياتها العاطفية لم تكن مخلصة لأي جانب معين في الحرب العالمية الأولى، لم يكن هناك دليل على أنها قدمت معلومات مفيدة عسكرياً لأي طرف.
هل كانت كبش فداء؟
ولكن بحلول عام 1917 ، كان الجيش الفرنسي قد أنهكته الحرب. وكانت الروح المعنوية منخفضة، وبدأت بعض الانقسامات العسكرية في التمرد على السلطة.
وتؤكد شيبمان أن جانب الحلفاء، والفرنسيين على وجه الخصوص، كانوا "يحتاجون إلى شخص يلومونه، ويعاقبونه على ما منوا به من هزائم".
لذلك وجدوا كبش فداء مثالياً في هذه المرأة "الأجنبية غير الأخلاقية التي أغوت بلا خجل الرجال من جميع الجيوش".
في 25 يوليو/تموز 1917، وجدت الحكومة العسكرية الفرنسية أن مارتا هاري مذنبة بالتجسس. من جانبها، لم تتدخل الحكومة الهولندية إلى حد كبير لنجدة مواطنتها، التي أُعدمت بعد أن قضت شهوراً تعاني من سوء التغذية والظروف الصعبة في السجن.
وبعد أن قُتلت بالرصاص، تم التبرع بجثمانها للتشريح إلى كلية الطب بجامعة باريس، وفقاً لموقع Biography للسير الذاتية.
وهكذا، ومهما كانت حقيقة مسيرتها المهنية في مجال التجسس، فقد أصبح إرثها إرث الجاسوسة المثالي، وأثار اسمها الغموض والإغراء والازدواجية.
وعلى الرغم من أن الجمهور اختار أن يتذكرها بهذه الصورة الغامضة، إلا أن الحكومة الألمانية برأت ماتا هاري في عام 1930.
لكن في فرنسا التي أعدمتها، كان هناك تردد كبير ورفض في إعادة النظر في قصتها، وعلى الرغم من رفع السرية عن بعض الأوراق الفرنسية المتعلقة بقضيتها خلال الحرب العالمية الأولى، لا تزال المرأة ضحية سمعتها السيئة كجاسوسة مزدوجة أو ضحية مأساتها ككبش فداء لحرب لم تخترها.