“حارة السقايين” مكان حقيقي وليست مجرّد أغنية! مهنة “السقّا” واحدة من أقدم المهن في مصر الحديثة

عربي بوست
تم النشر: 2022/03/11 الساعة 17:28 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/08/10 الساعة 10:59 بتوقيت غرينتش
كانت السقا طائفة محجوزة لأبناء العاملين فيها. "فابن السقا سقا، وابن الباشا باشا" / Getty Images

ليست "حارة السقايين" لشريفة فاضل، والتي غنّاها محمد منير لاحقاً، مجرّد أغنية. فقد انتشرت مهنة "السقا" بمصر في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، قبل التطور وإنشاء البنى التحتية الكفيلة بإيصال المياه إلى البيوت.

فهي واحدة من أقدم وأهم المهن التي عرفها المجتمع المصري، لاسيما مدينة القاهرة، لأكثر من 100 عام. و"السقا" كان الشخصَ المسؤول عن نقل المياه، من الأنهار أو الخزانات، إلى كل الأماكن. بدءاً من المنازل، مروراً بالمساجد، ووصولاً إلى المدارس. 

ولم يكن يسمح له بممارسة المهنة قبل حصوله على رخصة "مزاولة مهنة" من وزارة الداخلية، تحمل اسمه ومحل سكنه وسنّه ومكان ولادته، إضافة إلى الحارات المسموح له بالتجول فيها، وعليه وضع الرخصة على كتفه؛ حتى يتعرف عليه الجميع.

على السقا أن يحمل 30 كلغ طيلة 3 أيام من دون الاتكاء أو الجلوس!

لم تكن مهنة السقا مهنة سهلة إطلاقاً، بل العكس تماماً. ليصبح الشخصُ "سقّا"، كان عليه أن يخضع لاختبارٍ صعب: أن يحمل ما كان يُعرف بـ"القِربة"، إضافة إلى كيسٍ مليء بالرمل -يصل وزنه إلى 70 رطلاً (30 كلغ)- طيلة 3 أيام، من دون أن يُسمح له بالاتكاء أو الجلوس. 

وبحسب موسوعة "تراث مصري" لأيمن عثمان، فبعد نجاحه في اختبار التحمل، كان على السقا أن يخضع أيضاً لكشف طبي وكشف هيئة. وفي حال لم يكن والدك "سقا" قديماً، على الناس أن تشهد لك بحسن السير والسلوك حتى يشفع لك بالانضمام إلى المهنة. 

لم يُسمح للسقّا ممارسة المهنة قبل حصوله على رخصة
لم يُسمح للسقّا ممارسة المهنة قبل حصوله على رخصة "مزاولة مهنة" من الداخلية / Getty Images

ويضيف: "السقا كانت طائفة كغيرها من الطوائف والمهن والوظائف والمناصب، محجوزة لأبناء العاملين فيها. فابن السقا سقا، وابن الباشا باشا". 

والقِربة مصنوعة من جلد الماعز؛ لكونه يحافظ على برودة المياه، وكانت تتسع لنحو 20 لتراً من المياه، وتُغلَق بسدادة خشبية، وكان يحملها على ظهره لأكثر من عشر ساعات في اليوم الواحد.

وغالباً ما كان السقا يضع مادة الشَّبَّة بداخلها لتنقية المياه، حتى تصبح صالحة للشرب. وفي بعض الأحيان كان بعض "السقايين" يعطرون المياه، من خلال وضع قليلٍ من المستكة أو ماء الورد بداخلها. 

وعلى الرغم من أهمية تلك المهنة قديماً، فإنها كانت تُعتبر من أفقر المهن. لم يكن السقا يتقاضى في ثلاثينيات القرن الماضي أكثر من 10 قِطع فضة ثمناً لسعة القربة الواحدة، في حين كان يمشي يومياً مسافة قد تصل إلى 3 كيلومترات. 

كان إطفائياً أيضاً.. توصيل المياه لم تكن مهمته الوحيدة

لم يقتصر دور السقا في معظم الحارات على توصيل المياه إلى المنازل أو بيعها في الأسواق. فإلى جانب توريد المياه، كان أيضاً يرش الحارات والشوارع خلال أوقات الصيف؛ لإضفاء بعض البرودة إليها، كما كان عليه أن يكون جاهزاً في كل الأوقات، إذ كانت توكل إليه أحياناً مهمة إطفاء الحرائق. 

حي باب البحر، المتفرع من ميدان رمسيس حالياً والذي يقع إلى جانب باب زويلة في مصر القديمة، كان نقطة تمركز السقايين في القاهرة القديمة، لأنهم كانوا يفضَلون البقاء بالقرب من مصادر المياه. وسُمي بباب البحر، لأنه كان أحد الأبواب التي شيَّدها السلطان صلاح الدين الأيوبي، لأنه كان يطل على النيل في نهاية السور الشمالي الغربي للقاهرة. 

في نهاية القرن التاسع عشر، وُجدت في القاهرة 6 طوائف للسقايين الذين أطلق عليهم الرحالة المستشرقون اسم "سقا الشربة". وكان لكل طائفة من هذه الطوائف "شيخ" يتولى شؤونها. 

وأشهر طائفة كانت "سقايين القطاعي" والتي كانت تغطي معظم أحياء القاهرة القديمة وبولاق، وقد سُميت بطائفة الكيزان، لأنهم كانوا يحملون أكوازاً من النحاس في يدهم ويقدموا المياه مجاناً إلى العطشى.  

بحسب كتاب "إحصاءات عن مصر"، قُدِّر عدد السقايين في عام 1870 بـ3 آلاف و876 شخصاً، وقد أخذت هذه المهنة بالاختفاء تدريجياً من شوارع القاهرة منذ العام 1865 في عصر الخديوي إسماعيل الذي أمر بردم الخليج المصري، ومنح امتياز ضخ المياه إلى المنازل لشركة أجنبية. 

فأُنشئت شركة المياه وآلات الضخ والأنابيب التي وزعت المياه إلى القاهرة. كما مُدَّت المواسير، بحيث أصبحت مياه النيل تصل مقطَّرة إلى البيوت وحلَّت الحنفيات مكان السبيل. ووضعت الشركة، صاحبة الامتياز، عند هذه الحنفيات موظفين، مهمتهم الإشراف على توزيع المياه وتحصيل الثمن من المستهلكين.

حارة السقايين.. ليست مجرد أغنية فقط

تضم الحارة العديد من الشوارع التي تدل تسميتها على مهنة السقايين، مثل "حارة الزير المعلَّق"؛ وقد سُميت كذلك بسبب انتشار الأزيار أمام البيوت، والتي كانت تعلَّق بسلاسل حديدية؛ خوفاً من سرقتها.

اليوم، لم يتبقَّ من حارة السقايين سوى اللافتة الموجودة على مدخل حي عابدين في وسط القاهرة. فقد تبين أن الحارة كانت موجودة بالفعل. وعبارة "ما تروحش تبيع الميه في حارة السقايين" ليست مجرد مثَلٍ شعبي استُخدم في أغنية شريفة فاضل الشهيرة "حارة السقايين" (كلمات حسين السيد ولحن منير مراد).

يُقال إن شفيقة القبطية، أشهر راقصات ومغنيات القرن العشرين، عاشت في حارة السقايين. كما تشير بعض المصادر إلى أن سيّد درويش وُلد فيها، وأيضاً الشاعر أحمد رامي، كاتب أشهر أغنيات أم كلثوم.

وليست عبارة "ويعوّض الله" الذي يصدح بها صوت سيّد مكاوي في "لحن السقايين"، لموسيقار الشعب سيّد درويش، سوى تكريم للسقايين، وللحارة التي وُلد فيها. فهو يقول فيها "ويعوّض الله عَ السقايين دول شقيانين متعفرتين من الكوبانية".

ومن أشهر الأعمال التي جاءت على ذكر مهنة السقا، كتاب يوسف السباعي الشهير "السقا مات"، حيث اشتُهرت شخصية "المعلّم شوشة السقا" الذي حاول الهروب من ذكرى وفاة زوجته الشابة. 

تحميل المزيد