في ذكرى وفاته، وجَّه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، تحية وطنية لمن سماه بـ"قائد الجيش الإسلامي القوقازي، نوري كيليجيل باشا، الذي أنقذ باكو من احتلال العدو وكان من رواد صناعة الدفاع التركية الحديثة". الرجل الذي لا يُعرف عنه الكثير، تم تخصيص ذكره في حلقة من المسلسل التركي "Lone Wolf" أو "الذئب الوحيد" الذي يعرض على الشاشات التركية.
كان نوري باشا قائد كتيبة في الجيش العثماني قوامها 12 ألف رجل عندما كان عمره 28 عاماً فقط، وتاجراً ومستثمراً ورائداً في صناعة الأسلحة. وبناءً على تعليمات أخيه الأكبر أنور باشا، وزير الحرب في أواخر أيام السلطنة العثمانية، أنقذ أذربيجان من احتلال الروس، قبل أن يعود إلى تركيا ليشارك في دعم التحركات العربية المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي قبل أن يتوفى في ظروف غامضة.
من هو نوري باشا؟
اسمه نوري كيليجيل (أو نوري باشا)، وهو من مواليد عام 1889 في موناستير بإسطنبول، بعد أن أكمل تعليمه الابتدائي والثانوي، وتخرج من الكلية الحربية عام 1909، ملازماً أول، شارك نوري باي، في حرب طرابلس عام 1911.
مهمة رسمية في ليبيا ضد قوات الاحتلال
بعد مشاركة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، مُنح نوري بك رتبة مساعد معسكر للسلطان. خدم نوري أفندي في طرابلس وبنغازي حتى عام 1917، وخاض العديد من الحروب ضد القوات البريطانية والإيطالية والفرنسية، وهي مهمة لم تكن سهلة إطلاقاً.
إذ تم إرسال الكابتن نوري أفندي إلى ليبيا على متن سفينة يونانية مع الرائد جعفر العسكري بك و10000 قطعة ذهبية، حسب ما نشر موقع وكالة الأناضول.
كانت مهمته تنظيم وتنسيق عمليات قوات "تشكيلات محسوسا" مع القوات المحلية ضد القوات الإيطالية والبريطانية.
رست سفينته على الشاطئ بين طبرق والسلوم في 21 فبراير/شباط 1915، ثم توجَّه إلى أحمد شريف السنوسي في السلوم؛ لمباشرة مهمته السرية.
في عام 1917، وفي محاولة لتنظيم الجهود التي فرقت من قبل البريطانيين، أنشأت هيئة الأركان العثمانية "قيادة المجموعات الإفريقية" (Afrika Grupları Komutanlığı)، والتي كان هدفها الأساسي المناطق الساحلية لليبيا.
مهمة تحرير أذربيجان
لكن شقيق نوري باي الأكبر، أنور باشا، قائد الجيش العثماني، رأى فرصة في القوقاز بعد أن أخرجت الثورة الروسية روسيا من الحرب العالمية الأولى، فاستدعى نوري بك من ليبيا.
تمت ترقيته إلى رتبة أميرالاي فخري، وأسندت إليه مهمة تشكيل وقيادة "الجيش الإسلامي في القوقاز".
وكانت القوات الروسية والأرمينية سيطرت على أذربيجان في نهاية الحرب العالمية الأولى ونفذت مذابح بحق المسلمين هناك تسمى بـ"أحداث مارس".
على الفور توجه نوري باشا إلى يليزافيتبول (حالياً: غانجا) في 25 مايو/أيار 1918، وبدأ في تنظيم قواته.
تشكل جيش الإسلام في القوقاز رسمياً في 10 يوليو/تموز 1918، من جنود عثمانيين وأذريين وداغستانيين. وبدأت حملة تحرير القوقاز بشنِّ معارك ضارية ضد القوات البلشفية وعصابات الأرمن في العاصمة باكو.
وأخيراً نجح نوري باشا في تحرير أذربيجان وسيطر الجيش الإسلامي بالقوقاز على كل أذربيجان بعد نحو شهرين فقط، أي في 15 سبتمبر/أيلول 1918.
وبعد التحرير توجَّه نوري باشا إلى مسجد تزبير ليوجه خطاباً لعامة الناس، وتمت تسمية ذلك المنبر لاحقاً بـ"منبر نوري باشا"، وحولت السلطات المحلية بعد عقود، المنزل الذي أقام فيه الباشا في كنجة إلى متحف تاريخي.
على أثر توقيع هدنة مودروس، اضطر الجيش الإسلامي القوقازي إلى مغادرة باكو، واعتقل البريطانيون نوري باشا في باطوم.
ولكن في 8 أغسطس/آب 1919، وفي أثناء تقديمه للمحاكمة، تمكن من الفرار من السجن بمساعدة القوقازيين، إذ نصب أنصاره كميناً للحراس الذين كانوا يرافقونه وساعدوه على الهروب إلى أرضروم.
في تلك الفترة، انتهت الحرب الأهلية الروسية بفوز الجيش الأحمر الشيوعي واعتبر لينين أن ثروات الطاقة في باكو لا غنى عنها، فتوجه الجيش الأحمر إلى أذربيجان في 25 أبريل/نيسان من العام 1920، ودخل باكو بعد يومين، مستغلاً أزمتها السياسية الكبرى بعد استقالة خامس حكوماتها.
سبَّب احتلال باكو، حزناً كبيراً لنوري باشا، ونقل كابار إرتورك الأذربيجاني التصريح التالي لنوري باشا في كتابه "التركية المنسيَّة في الوطن"، الذي كتبه عام 1956: "بقدر ما تسبب استشهاد أخي (أنور باشا) في ألم بقلبي، إلا أن غزو أذربيجان زاد من آلام قلبي. كان أخي فانياً، لكن التركية في أذربيجان أبدية. أتمنى لو كنت قد فقدت حياتي، كي لا تبقى أذربيجان خارج التركية".
أحد رواد صناعة الدفاع التركية
في عام 1921، توجه نوري باشا إلى ألمانيا، حيث تعلَّم صناعة البلاط وعاد إلى إسطنبول في عام 1924 لينشأ مصنع Kütahya Çinicilik Anonim Şirketi للبلاط أو "مصنع سلع الحديد" في العام 1933، لكنه سرعان ما قلب مصنعه في سوتلوش إلى صناعة الأسلحة والذخائر.
نفذ تصاميم أسلحة مختلفة وحصل على براءات اختراع لها، وكان السبب وراء إنتاج تركيا الضخم لأول مسدسٍ عيار 9 ملم، والذي أطلق عليه اسم "سلاح نوري".
ورغم إعلانه بأن المصنع توقف بعد فترة عن تصنيع الأسلحة، وفق ما نشر موقع Akit التركي، إلا أن العمل استمر سراً.
تطورت صناعة مصنعه لتشمل المدافع وقذائف الهاون والطلقات المضادة للطائرات، وكذلك قنابل الطائرات، ويعد من أوائل رواد الأعمال الذين ساهموا في تطوير صناعة السلاح كقطاع خاص وتعزيز القوة العسكرية للجيش التركي.
وتحدَّث أردوغان عن نوري باشا في خطابه بحفل افتتاح روكيتسان لإطلاق الأقمار الصناعية وأنظمة الفضاء والتكنولوجيا المتقدمة ومنشأة إنتاج المواد الخام المتفجرة في 30 أغسطس/آب 2020، قائلاً:
"مصنع الطائرات الذي أنشأه نوري دميراغ في قيصري، ومصنع الأسلحة الذي أنشأه نوري كيليجيل بإسطنبول ما زالا في أذهاننا كرواد في صناعة الدفاع لدينا. ومع ذلك، فقد تم تخريب كل هذه المشاريع المهمة من قِبل إداريي تلك الفترة، والذين كانوا بلا أفق ولا رؤية، عن قصد وعن وعي تقريباً. ومع ذلك، لو تم الاعتناء بنوري دميراغ، وفيجيهي هوركوش ونوري كيليجيل، لكانت تركيا في وضع مختلف تماماً في صناعة الدفاع اليوم. ولكانت من الأقوى في العالم".
وإضافة إلى ذلك، حرص نوري باشا على التواصل مع السفير الألماني في أنقرة، فرانز فون، في عام 1941؛ لكسب الدعم الألماني. وبمساعدته، تم تشكيل الفيلق التركستاني.
وخلال الحرب العالمية الثانية، توجه توري باشا إلى ألمانيا ؛في محاولة لتحقيق الاعتراف باستقلال أذربيجان، لكن محاولاته باءت بالفشل.
انفجار أم اغتيال مدبر؟
وأخيراً، في 2 مارس/آذار من عام 1949، هزت 3 انفجارات متلاحقةٍ مصنع الأسلحة، دخل نوري باشا إلى المصنع بعد الانفجار؛ في محاولة لإخماد الحريق لكنه لم يخرج منه قط.
توفي نوري باشا إلى جانب 28 آخرين، ونقلت الصحف المحلية آنذاك كيف استمر دخان الحريق حتى اليوم التالي وعمت رائحة البارود المحترق في كل مكان.
تطايرت أشلاء الضحايا، وقضت فتوى بأنه لا يمكن إجراء مراسم دفن لأشلاء، ودُفن نوري باشا دون أي مراسم جنائزية رسمية، في تابوت فارغ.
وبينما اعتُبر الانفجار رسمياً حادثاً، أدلى بعض النواب في الجلسة التي أقيمت في 18 مارس/آذار من ذلك العام، مخاوفهم من أنها عملية اغتيال مدبرة.
ورجح مؤرخون أن المخابرات الإسرائيلية نفذت عملية اغتياله وتدمير المصنع، بعدما أمدَّ سراً حركات المقاومة العربية والفلسطينية بالذخائر والأسلحة لمقاومة العصابات الإسرائيلية، ومضى عقوداً حكومية مع مصر وسوريا والأردن ولبنان لتزويدهم بالسلاح.
وحازت هذه النظرية تأييداً كبيراً، خصوصاً أن المصنع كان بصدد تسليم الحكومة السورية ألفي قذيفة هاون وذخائر أخرى.
وحسب وثائق رسمية، كان نوري يعمل على تحضير طلبيات معدة للحكومة المصرية بعد عودته من زيارة لمصر. وما زاد الشكوك حول طبيعة علاقاته مع مصر وسوريا هو زواجه بأميرة مصرية تدعى ميسلي ملك هانم أو مثل ملك هانم، ابنة الأميرة عفت، حسب ما نشر موقع Independent التركي.
وبعد مرور 67 عاماً على وفاته، أقيمت طقوس جنازته رسمياً في عام 2016، بحضور عائلة كيليجيل والنائب الأذربيجاني جانير باساييفا ومسؤولين من بلدية إسطنبول الكبرى حسب صحيفة Daily Sabah، وتبقى حقيقه وفاته- أو اغتياله- سراً حتى يومنا هذا.