مع أوّل صافرة إنذار رُفعت أواخر عام 1914 تاريخ اندلاع الحرب العالمية الأولى، ومع دخول الطائرات ميدان الحروب، كان الإنسان مضطراً لإيجاد فكرة جديدة تحميه من ويلات الغارات الجوية. ومن هنا بدأت فكرة بناء الملاجئ التي كانت بسيطة في بدايتها وتطورت فيما بعد لتلائم حاجات الإنسان، وتطوّرات الأسلحة التي تُستخدم ضدّها.
دامت الحرب العالمية الأولى أكثر من أربع سنوات، وبعد أكثر من عقدين اندلعت الحرب الثانية والأكثر شراسة، أثناءها تغيّرت حياة البشر في جميع أنحاء العالم. كان للتطور الصناعي أثر كبير على إنتاج الأسلحة عدداً وفتكاً. صارت الحروب أكثر شراسة. فبينما كان عدد قتلى الحرب الأولى ثمانية ملايين شخص تضاعف العدد إلى سبعين مليون شخص عدد ضحايا الحرب العالمية الثانية. ولم ينج سوى من أتقن جيّداً فنّ الاختباء.
ملاجئ أوروبا.. تاريخٌ من الرعب بدأ في برشلونة
انتشرت صور الملاجئ في أوروبا بشكلٍ كثيف في بدايات القرن الماضي، لتنقل تاريخاً من الرعب والخوف الذي عاشه المواطن الأوروبي طيلة الحربين العالميتين، وجد الأكاديمي البريطاني غابرييل موشينكا أنّ الدافع الأساسي لبناء الملاجئ في فترة الثلاثينات بأوروبا من القرن الماضي يعود أساساً إلى تأثير الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939) على الأوروبيين وخوفهم من التدمير الشامل. وذلك وفق ما ذكره في كتابه "الثقافة المادية للطفولة في الحرب العالمية الثانية ببريطانيا".
كما ذكرت بعض المصادر التاريخية أنّه بعد أقلّ من عام واحد على اندلاع الحرب العالمية الأولى أي في عام 1915، اتخذ قرابة 300 ألف مواطن بريطاني محطات المترو ملاجئ لهم من الغارات الجويّة فيما هرع 500 ألف مواطن إلى أقبية البيوت والعمارات للاختباء.
من أقدم الملاجئ ببريطانيا مرآب صغير بمنزل يقع في مقاطعة لينكولنشاير شرق انجلترا، بناه عالم الكيمياء جوزيف فورستر عام 1916 وذلك بعد الهجمات التي شنتّها ألمانيا ضدّ المدنيين البريطانيين. يبلغ عرض المبنى 4 أمتار وعمقه خمسة أمتار ويتكوّن من غرفة واحدة.
بعد انتهاء الحرب العالمية بأكثر من عقدين، شهدت مدينة برشلونة بناء 1300 ملجأ طيلة الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939) والتي ذهب ضحيتها قرابة 500 ألف قتيل.
شارك سكّان برشلونة في بناء هذه الملاجئ، وهي عبارة عن شبكة أنفاق تمّ حفرها تحت الشوارع والساحات وتمّ تجهيزها بمستوصف ومراحيض ومقاعد.
تابعت بقيّة أوروبا الحرب الأهلية الإسبانية وكيفية بناء الملاجئ ونقل العالم البريطاني جي بي اس هالدان خلال زياراته إلى برشلونة أثناء الحرب في كتابه الصادر 1938 دروس الإسبان في الاختفاء وكيفية هندسة الأنفاق إلى عموم السياسيين والشعب البريطاني.
وتعتبر تجربة ملاجئ برشلونة آنذاك الأكثر نجاحاً، بل وأصبحت نموذجاً اقتدى به الأوروبيون لا سيّما البريطانيون لتصبح ملاجئ موريسون وأندرسون مستوحاة من التجربة الإسبانية.
تعتبر ملاجئ أندرسون التي حملت اسم وزير الدفاع البريطاني آنذاك، الأشهر على الإطلاق في بريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية وهي ملاجئ عامة تمّ حفرها وتغطيتها بدعائم فولاذية في الحدائق العامة.
احتمى البريطانيون الذين لم يملكوا أقبية في بيوتهم بهذه الملاجئ بعد أن يسمعوا صفارات الإنذار قبيل بدء الغارات الجوية الألمانية. وقد تمّ بناء أكثر من مليون ملجأ أندرسون واحتمى به أكثر من مليوني شخص.عرفت بريطانيا كذلك أثناء الحرب العالمية الثانية ملجأ موريسون (1941) ويمتاز بسهولة تصنيعه في المنزل وهو عبارة عن طاولة كبيرة سطحها من المعدن ذات أربع قوائم معدنية قويّة ومسيّجة بالمعدن من جهاتها الأربع.
يمكن وضع ملجأ مويسون في المنزل للحماية من الغارات الجويّة؛ إذ يعمل سطح القفص المعدني على منع وصول الركام إلى المختبئين، كما تمنع القوائم المعدنية المثبتة من انهيار سطح القفص.
ملاجئ الحرب الباردة، ترجمت حجم الخوف من الإشعاع النووي
أصبح الخطر من الاصابة بالإشعاعات النووية السمة البارزة في فترة الحرب الباردة (1947- 1991) والتي تميّزت آنذاك بالتهديد النووي بعد أن جرّب الاتحاد السوفييتي القنبلة الأولى عام 1949، وهو ما دفع الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها رسمياً إلى الدخول في سباق التسلح النووي.
في خضم التسابق النووي المحموم هذا شهدت الكثير من الدول في مختلف أنحاء العالم بناء عدد من الملاجئ ضدّ الإشعاعات النووية، وقد أسس الاتحاد السوفييتي سلسلة طويلة من الملاجئ تحت الأرض.
بلغ طول أحد الملاجئ 60 متراً تحت الأرض واستوعب 1500 شخص وظلّ استخدام الملجأ إلى حدود 1985 كما أنّ بريطانيا أقامت غرف اجتماعات سريّة تحت الأرض وكانت مزودة بأجهزة اتصالات تمكّن القيادة البريطانية من مخاطبة الشعب البريطاني.
ورغم أنّ سويسرا قد اتخذت موقفاً حيادياً أثناء الحرب الباردة فإنّه لم يمنعها من بناء ملاجئ مضادة للأسلحة الذرية والنووية منذ الستينات من القرن الماضي. فالحياد لا يمنع الإشعاع النووي؛ إذ وصل عدد الملاجئ في السبعينات من القرن الماضي إلى نحو 400 ألف ملجأ ولا تزال سويسرا إلى اليوم تبني الملاجئ.
ومن الطريف أنّ القانون الفيدرالي السويسري نصّ في المادّة 45 و 46 على حقّ المواطن السويسري في ملجأ في محلّ سكناه. ونصّ على "وجوب توفرّ كل شخص يعيش في سويسرا على مكان محمي يمكن الوصول إليه بسرعة من مكان إقامته" في حالة التعرّض إلى هجمات نووية.
ويشترط على أصحاب البنايات السكنية بناء ملاجئ وتجهيزها، وفي حالة الإخلال بهذا الشرط يغرّم أصحابها بمبالغ ضريبية حتى يتمتعوا إذا قامت الحرب بمكان في ملجأ الدفاع الوطني التابع للدولة السويسرية. وفي هذا السياق وفرّت سويسرا 7000 صافرة إنذار لتحذير سكانها في حالات الطوارئ المحتملة ويجرى اختبار هذه الصافرات سنوياً في أول أربعاء من شهر فبراير/شباط.
المفارقة.. ملاجئ حروب تحوّلت إلى مزارات سياحية
رغم جوانبها المظلمة في تاريخ البشرية وما حملته من أهوال الحروب تحوّلت بعض الملاجئ في بعض الدول إلى مزارات سياحية يرتادها السيّاح.
من بين هذه الملاجئ، ملجأ القوّات اليابانية الذي بني عام 1943 والمتواجد بمدينة كاساي غرب اليابان وقد تضمنت جدران الملجأ الكلمات الأخيرة لجنود وحدة الهجمات الانتحارية الجويّة كتبوها لأهاليهم، وقد اختارت اليابان المحافظة عليه (ك)أطلال حرب من أجل الدعوة إلى السلام.
وفي فرنسا حوّل مواطن فرنسي ملجأ بناه الألمان تحت الأرض وتبلغ مساحته إلى 400 متر إلى فندق وقد بني هذا الملجأ عام 1940 لصدّ هجمات الحلفاء في شمال فرنسا، وقد عمل سيرج كوليو المالك الجديد للملجأ على تجديده وتحويله إلى فندق فخم تبلغ سعر قضاء ليلة بداخله لستّة أشخاص ما يعادل 475 دولار لليلة الواحدة.
ومن أشهر الملاجئ التي تحوّلت إلى مزار سياحي، متحف ونستون تشرشل بلندن والموجود تحت الأرض بلندن وهو أحد الفروع الخمسة للمتحف الحربي الإنجليزي، وهو عبارة عن مُجمَّع يقع في قبو إحدى المباني بلندن.
ويضمّ المتحف غرفة تشرشل وسيرته الذاتية. ويذكر أنّ هذا القبو قد شهد 115 اجتماع لمجلس الحرب بقيادة تشرشل ما بين عامي 1939 و1945 افتتح المتحف رسميا عام 1984 ويبلغ سعر التذكرة 25 جنيه استرليني.