لا بد أنكم سمعتم بدعوة شيخ الأزهر، أحمد الطيب، لإحياء فتوى "حق الكد والسعاية" المستمدة من التراث الفقهي الإسلامي، وربما قرأتم عن الجدل الدائر حول هذه الفتوى، ورأيتم انقسام الجماهير ما بين داعم لها كونها تضمن حقوق المرأة العاملة، ومستنكر لها كونها مجرد نصرة "للنسويات" كما يدعي البعض.
لكن ما قد يجهله البعض أن هذه الفتوى تعود إلى أيام الخليفة عمر بن الخطاب، وقد عمل بها الفقهاء على مر السنين، وكان أهل المغرب سباقين في تحويلها إلى تشريع قانوني يضمن حق الزوجة، بل ويشمل الأعمال المنزلية أيضاً في بعض الحالات، فلا يقتصر على العمل الذي تقوم به المرأة خارج المنزل.
حق الكد والسعاية.. بداية القصة عند حبيبة بنت زريق
كانت حبيبة بنت زريق، التي عاشت في عهد عمر بن الخطاب، أول امرأة تطبق عليها فتوى حق الكد والسعاية، إذ كانت حبيبة نسّاجة تخيط الملابس وتطرزها، وكان زوجها عمرو بن الحارث يتاجر بما تصنعه زوجته، فتمكن الزوجان من تكوين ثروة من النسج والتجارة.
لكن عندما توفي عمرو بن الحارث استولى أهله على أمواله كلها، متجاهلين حق حبيبة فيها، إذ كانت شريكة لزوجها في تجارته، لكن حبيبة لم تسكت عن حقها، واحتكمت إلى الخليفة عمر بن الخطاب.
بعد أن سمع ابن الخطاب القصة قضى بقسم المال إلى نصفين، نصف لحبيبة والنصف الآخر يقسم على الورثة -ومن بينهم حبيبة- وفقاً للشرع، إذ يحق لبنت زريق أن تأخذ ربع ما ترك زوجها؛ كونها ليس لديها أطفال منه.
ومن هنا ظهرت فتوى حق الكد والسعاية، التي تحفظ أموال المرأة العاملة، التي أسهمت في تكوين ثروة زوجها.
رأي الفقهاء في الذمة المالية المستقلة
أثبت الفقه الإسلامي استقلالية الذمم المالية للزوجين، وهو ما يُقرره فقهاء المالكية وغيرهم، فالزوج مسؤول بحكم العقد الشرعي عن النفقة، وقد ذهب الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة في روايات لهم أن نفقة الزوج تصير ديناً في ذمته من وقت وجوبها، أي منذ توقيع العقد الشرعي، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: ((وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف)).
ويرى جمهور من الفقهاء أنه يثبت للمرأة حقوقها المالية وغيرها مما يثبت للرجل، ويجب عليها مثلما يجب عليه، ما دامت عاقلة مميزة ورشيدة فلها ذمة صالحة.
ولقد أصدر مجمع الفقه الإسلامي الدولي، المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي، المنعقد في دورته السادسة عشرة بدبي، قرارات وفتاوى عن اختلافات الزوج والزوجة العاملة التي تسهم في ثروة العائلة، وعن انفصال الذمة المالية بين الزوجين.
ومن ضمن الأحكام التي أصدرها مجمع الفقه الإسلامي الدولي: "للزوجة الأهلية الكاملة والذمة المالية المستقلة التامة، ولها الحق المطلق في إطار الشرع الحكيم مما تكسبه من عملها، ولها ثروتها الخاصة، ولها حق التملك، وحق التصرف فيما تملك، ولا سلطان للزوج على مالها، ولا تحتاج لإذن الزوج في التملك أو في التصرف بأموالها".
من الشرع إلى القضاء في المغرب
وفي حين ينظر إلى حق الكد والسعاية على أنه فتوى شرعية من التراث الفقهي الإسلامي، إلا أنه يعتبر تشريعاً قانونياً كذلك في المغرب.
إذ يحفظ القانون المغربي للزوجة حقها في أموال زوجها إذا كانت قد أسهمت في تنميتها معه.
وبدأ تطبيق هذا القانون في المغرب عام 2004، اعتماداً على المادة 49 الواردة في مدونة الأسرة المغربية، والتي تنص في فقرتها الأولى على استقلال الذمة المالية للزوجين كمبدأ عام (الأمر الذي يحفظ حق الزوجة العاملة بلا شك)، وتنص في فقرتها الثانية على جواز الاتفاق بين الزوجين على تسيير وإدارة الأموال المكتسبة خلال الحياة الزوجية، وتوثيق هذا الاتفاق بشكل رسمي في عقد مستقل، حتى يسهل إثبات تفاصيل الذمة المالية لكل من الزوجين، ومعرفة القدر الذي أسهم به كل منهما في تكوين ثروة الأسرة.
وقد ألف الدكتور المغربي كمال بلحركة كتاباً بعنوان: "الكد والسعاية: حق المرأة العاملة عند الفقهاء والقضاة المغاربة"، تناول فيه مفهوم حق الكد والسعاية، وأصوله العرفية وآراء الفقهاء فيه، كما تطرق إلى القانون المغربي، الذي سعى لحفظ حق المرأة العاملة استناداً لأصول المذهب المالكي وقواعده.
هل ينطبق حق الكد والسعاية على المرأة غير العاملة؟
لا يعتبر حق الكد والسعاية حكماً شرعياً فقط في المغرب، بل هو قانون قضائي أيضاً كما سبق وذكرنا، وقد شهدت المحاكم المغربية قضايا لنساء يطالبن بهذا الحق، على الرغم من أنهن لسن عاملات، وكانت حجتهن قيامهن بالأعباء المنزلية.
فعلى الرغم من أن الأعمال المنزلية التي تقوم بها المرأة لا تشكل دخلاً للأسرة بحد ذاتها، فإنها توفر على الرجل أعباء مادية، في حال كان سيؤجر شخصاً للقيام بهذه الأعباء التي تتولاها زوجته.
ووفقاً للباحثة الجزائرية، سعيدة شيبوط، التي قدمت دراسة تفصيلية للمادة 49 من مدونة الأسرة المغربية، فقد اعترف القضاء المغربي بهذا النوع من الأعمال، كونه يدخل ضمن حق الكد والسعاية، فصدر حكم على سبيل المثال، من محكمة الدار البيضاء، بقسم شؤون الأسرة، يقضي للزوجة بمبلغ 200 ألف درهم مغربي، رغم غياب وثيقة الأموال المكتسبة بين الزوجين، باعتبار أن ما فعلته تجاه أولادها وزوجها طوال سنوات الزواج التي استمرت أربعين عاماً "عمل ومجهود كبيران أسهما في تنمية أموال الزوج".
حق الكد والسعاية لا يقتصر على الزوجة فقط
وفي التراث الفقهي الإسلامي لا يقتصر حق الكد والسعاية على الزوجة فقط، بل يشمل كل أفراد الأسرة الذين يعملون معاً لإعالة الأسرة وتكوين ثروتها، فقد سئل الفقيه المغربي عيسى بن عبد الرحمن السكتاني (وهو فقيه عاش في مراكش وتوفي عام 1652)، سئل عن رجل كان له زوجة وأولاد مساهمون في العمل، فهل يقتسمون وِرثته "كل واحد على قدره وكَدِّه" من الأصاغر والأكابر أم لا؟ فأجاب السكتاني قائلاً بأنهم يقتسمون على قدر كدهم وسعيهم، إذ لا فارق بين الذكر والأنثى، ولا بين حياة الأب وموته، ولا بين الزوجة والإخوة وغيرهم.
ووفقاً للفقيه محمد بن أبي بكر الشابي الأزاريفي، من الممكن أن يكون حق الكد والسعاية بين الولد وأبيه كذلك، إذ قال في كتابه "المنهل العذب السلسبيل"، إنه إذا ادعى الولد على أبيه بكده وكسب يده في جميع ما عنده من المال وغلة الأصول، فعليه أن يحلف أنه لم يقصد بخدمته البر والإحسان إليه، فيعطى سعايته على حسب العادة والعرف.
شيخ الأزهر يعيد الحديث حول حق الكد والسعاية
أصدر شيخ الأزهر الإمام أحمد الطيب تصريحات أثارت الجدل على نطاق واسع، إذ دعا إلى إعادة إحياء "حق الكد والسعاية"، الذي يضمن للمرأة العاملة حقها في ثروة زوجها، خاصة أنها مساهم رئيسي في تكوين هذه الثروة.
وأكد على غزارة وعمق التراث الإسلامي، الذي شمل النظر بكافة القضايا المجتمعية، وحرص على صون كرامة المرأة والحفاظ على حقوقها.
الجدل الذي أثارته فتوى الأزهر
على الرغم من أن "حق الكد والسعاية" ليس فتوى جديدة، فقد عمل بها المسلمون منذ عهد عمر بن الخطاب، وجدد الفقهاء إحياءها على مر السنين، ورغم أنها قانون سارٍ في المغرب لكن كل ذلك لم يُسهم في منع الجدل الذي أثير بعد دعوة شيخ الأزهر لإحياء هذه الفتوى.
واستنكر البعض هذه الفتوى، ووصفوها بأنها نصرة "للنسويات"، فعلى سبيل المثال غرد مدرس الشريعة الإسلامية، خالد الحويني قائلاً: "لا يوجد في الإسلام ما يسمى بحق الكد والسعاية، وقصة حكم عمر بن الخطاب رضي الله عنه لزوجة بنصف تركة زوجها المتوفى واقعة عين، كانت الزوجة شريكة لزوجها في تجارته، فهو من باب الديون، يستحقه صاحبه رجلاً كان أو امرأة قبل تقسيم تركة الميت… فرح الجمعيات النسوية بهذا والمطالبة بسن قانون به".
لكن في المقابل، وجد آخرون أن إحياء هذه الفتوى يضمن حق المرأة المصرية العاملة، خاصة أن معظم النساء في هذه الأيام بتن يشاركن أزواجهن في العمل خارج المنزل، ويسهمن بصورة كبيرة في تكوين ثروة العائلة.