وحَّدت حضارتين في العراق باسم الدين! الراهبة “إنخيدوانا”.. أول شاعرة عرفها التاريخ

عربي بوست
تم النشر: 2022/02/14 الساعة 14:16 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/02/14 الساعة 14:17 بتوقيت غرينتش
صورة تعبيرية عن الحضارة السومرية /Istock

إن أردنا أن نجيب على التساؤل التالي: "أيهما أقوى: كلام الشعراء أم رجال الدين، أم الحكّام؟" فالإجابة الأكثر إنصافاً هي أن لكل منهم قوته الخاصة وتأثيره المختلف.

فقد حركت كلمات الشعراء على مر العصور القلوب وتسببت بالخلافات بين القبائل والعشائر. وكذلك كلام رجال الدين الذي يستطيع أن يوحّد أمماً متفرقة ويجمع حضارات مختلفة. أما كلام الحكّام فله تأثير أكبر عندما تدعمه كلمات الشعراء ورجال الدين على حدٍ سواء.

لن نتحدث في هذه المادة عن شاعر اعتيادي ولا رجل دين كرَّس حياته للعبادة ولا حاكم سعى لإرضاء كليهما واكتساب قوته منهما.

ولكننا سنروي في هذا التقرير قصة امرأة جمعت المناصب الثلاثة، فكانت شاعرةً تخاطب القلوب وكبيرة كاهنات الآلهة والأميرة التي وحَّدت الحضارات. 

إنها إنخيدوانا؛ الأميرة الأكدية من بلاد الرافدين، وأقدم شاعرة عرفها التاريخ والكاهنة العليا التي وحَّدت الحضارتين الأكدية والسومرية باستخدام الدين.

إنخيدوانا
خريطة بلاد الرافدين /Istock

من هي إنخيدوانا أو "الكاهنة العليا زينة السماء"؟

من أب أكدي وأم سومرية، ولدت إنخيدوانا أو إن-هيدو-انا والتي تعني "الكاهنة العليا زينة السماء" في عام 2285 ق.م في بلاد الرافدين بين نهري دجلة والفرات، في العراق اليوم.

أمها كانت الملكة السومرية "تاشلولتوم" من جنوب العراق، وقد كانت أيضاً كاهنة عالية المقام من كاهنات إله القمر نانا (سين).

أما والدها فقد كان الملك سرجون العظيم مؤسس إمبراطورية أكاد العظيمة التي وحَّد فيها مدن وولايات شمال بلاد الرافدين وجنوبه والأناضول تحت راية واحدة تحمل اسم "الإمبراطورية الأكادية"؛ لكنه لم يقم بذلك بمفرده فقد لعبت ابنته الراهبة إنخيدوانا دوراً سياسياً مهماً في تأسيس هذه الإمبراطورية.

كبيرة الكاهنات، ابنة سرجون الأكدي توحِّد الحضارتين

رغم زواجه من ملكة سومرية، إلا أن الملك سرجون كان ينتمي إلى الشمال من بلاد الرافدين، ويتحدث الأكدية التي كانت أقدم اللغات السامية؛ لذلك كان يراه الناس في المدن السومرية القديمة في الجنوب دخيلاً أجنبياً احتل مدنهم، مما دفعهم للثورة عليهم مرات عديدة في محاولة لاستعادة استقلالهم وإسقاط حكمه عليهم، وفق ما جاء في موقع World History.

كان سرجون على دراية تامة وحكمة كافية بأن سبب الثورات عليه هو اختلاف الحضارتين، السومرية والأكدية، على الرغم من قرب جغرافيتهما، وأن الحل هو وجود نسل ملكي سومري له سلطة ونفوذ في الجنوب.

لتأمين قوته في الجنوب السومري، قام سرجون بتعيين ابنته الوحيدة إنخيدوانا، التي تحمل الأصل السومري من أمها، كبيرة الكاهنات في أهم معبد في الإمبراطورية والذي كان يطلق عليه إسم "گيبارو" في مدينة أور السومرية، لسد الفجوة بين الحضارتين ومساعدته على توطيد الإمبراطورية.

إنخيدوانا
صورة لبلاد الرافدين /Istock

مزجت الآلهة فوحّدت الحضارتين السومرية والأكدية في بلاد الرافدين

كانت إحدى مسؤوليات إنخيدوانا في منطقة سومر هي إبقاء السكان تحت السيطرة من خلال الدين.

وقد ترك الملك سرجون لابنته إنخيدوانا مهمة كبيرة تمثَّلت بدمج الآلهة السومرية مع الآلهة الأكدية لخلق الاستقرار الذي تحتاجه إمبراطوريته لتزدهر.

لكن إنخيدوانا لم تقم بمزج الآلهة فحسب، بل غيّرت الثقافة بأكملها! فمن خلال أعمالها المكتوبة وشعرها، قامت بتغيير طبيعة آلهة بلاد ما بين النهرين والتصور الذي كان لدى الناس عن الآلهة.

فقد قرّبت إنخيدوانا الآلهة من الناس، وقامت بخلق تناغم جديد بين المعتقدات السومرية والأكدية، لخلق فهم أكثر تقارباً مما كان عليه الحال من قبل.

وفي حركة تنم عن فطنة وذكاء كبيرين، قامت إنخيدوانا برفع شأن الآلهة السومرية مثل آلهة القمر نانا، وجعلتها أكثر عمقاً وتعاطفاً، تقام الصلوات والتضرعات لها في كل مطلب.

ورفعت كذلك من شأن الإلهة إنانا التي كانت إلهة الزرع المحلي إلى مرتبة ملكة الجنة القوية التي تعتبر آلهةً يجب عبادتها ليس فقط عند السومريين بل الأكديين أيضاً، فوحَّدت بذلك الآلهة التي يعبدها الجميع في إمبراطورية أبيها.

إنخيدوانا، أول مؤلفة تكتب بضمير المتكلم وتوقع باسمها

كانت كتابات إنخيدوانا عميقة المعنى وروحانية وشخصية للغاية. ويعتبرها المؤرخون أول مؤلفة معروفة تكتب بضمير المتكلم في عصر كان مجال الكتابة فيه خاضعاً لسلطة الذكور، مما أظهر مكانتها الدينية الفريدة والعالية.

قامت إنخيدوانا بتأليف العديد من الأعمال الأدبية، بما في ذلك ترنيمتان لآلهة الحب في بلاد ما بين النهرين إنانا (عشتار السامية). كما كتبت أسطورة إنانا وأبيه، ومجموعة كبيرة من 42 ترنيمة للمعابد.

وقد أطلق عليها "ويليام وولفغانغ هاللو"، الباحث المختص في أدب الآشوريات والبابليات، "شكسبير الأدب السومري"، لشدة إعجابه بكتابتها وترنيماتها.

أشعار إنخيدوانا تناولت جوانب غير دينية أيضاً

لم يقتصر شعر إنخيدوانا على التضرع والدعاء، فقد اعتبر الباحثون وصفها للقياسات والحركات النجمية على أنها ملاحظات علمية مبكرة. وقد تمت تسمية فوهة بركانية في كوكب عطارد تكريماً لها ولملاحظاتها العلمية المبكرة في عام 2015.

وفي بعض قصائدها أيضاً، تشيد إنخيدوانا بالآلهة إنانا على منحها الناس الرغبة والإثارة والقدرة على "جذب الرجل إلى المرأة والمرأة إلى الرجل".

وقد كُتبت أعمال إنخيدوانا بخط مسماري، وهو شكل قديم من الكتابة باستخدام الألواح الطينية، ولكن تم تناقل كتابتها على شكل نسخ لاحقة تعود لحوالي 1800 قبل الميلاد، من العصر البابلي القديم وما بعده.

صورة تعبيبرية للآثار السومرية /Istock

انقلاب يبعدها عن السلطة وترنيمة تعيدها لمكانتها

بعد وفاة والدها، الملك سرجون الأكدي، قام أحد الجنرالات السومريين بانقلاب عسكري، ونفى إنخيدوانا خارج مدينة أور وعزلها من مكانتها الكهنوتية.

في محاولة للعودة لوطنها واسترداد مكانتها، كتبت إنخيدوانا أشهر أعمالها المكرسة للإلهة إنانا تطلب منها العون والمساعدة لأنها طردت من منصبها من قبل الملك السومري المتمرد، والذي لم يُظهر الاحترام المناسب للآلهة ودنس معبد الآلهة العظيم.

ويبدو أن الإلهة إنانا استجابت لدعواتها بقمع التمرد وتمكن ابن أخيها، نارام سين، بتوحيد سومر وأكاد مجدداً بنجاح. وأعيدت إنخيدوانا إلى منصبها كاهنة مرة أخرى.

كما أصبحت قصيدتها التي كتبتها نصاً مقدساً في الأدب السومري حتى إن الطلبة والكتبة كانوا يدرسونه خلال العصر البابلي بعد 500 سنة من وفاتها. وقد تم العثور على أكثر من 100 نسخة من ألواح الطين من الترنيمة، مما يدل على شعبيتها. 

اكتشاف أختام تعود لإنخيدوانا في بلاد الرافدين

لأنها عاشت في فترة موغلة في القدم لم تعرف فيها النساء شاعرات أو كاتبات، كان طلاب العلم والمؤرخون في شك دائم حول أعمال إنخيدوانا ومكانتها وكانوا يتطلعون دائماً لإيجاد دليل ملموس يعود لها. 

لكن في عام 1927 وجد علماء الآثار الأختام الأسطوانية الخاصة بها في معبدها الذي كانت تترأسه وكانت القطع تعود لنفس الحقبة الزمنية التي عاشتها.

كانت الأختام عبارة عن قطعة من مرمر منقوش يصور الكاهنة العليا زينة السماء مع ثلاثة من مساعديها الذكور، في مشهد تقديم قرابين. وعلى الطرف الخلفي توجد كتابة لنص يحمل اسم إنخيدوانا وموجه لآلهة القمر.

تتوسط إنخيدوانا النقش، مع تركيز نظرتها على القرابين الدينية، ورفع يدها في إشارة للتقوى والتضرع مما يؤكد المكانة الدينية والاجتماعية للكاهنة.

كما اكتشف قرص من المرمر يحمل اسمها وصورة لها في موقع جيبار في مدينة أور الأثرية، وهو مكان إقامتها الرئيسي.

كما حفظت العديد من نسخ عن أعمال إنخيدوانا التي تعود لمئات السنوات بعد وفاتها في مدينتي نيبور وأور جنباً إلى جنب مع مخطوطات ملكية مما يشير بوضوح إلى أهميتها الكبيرة التي من الممكن أنها تساوي أهمية مخطوطات الملوك.

تحميل المزيد