يعتقد البعض أن بعض الأثرياء هم من أكثر الناس سخاءً؛ بفضل تبرعهم المستمر للأعمال الخيرية، لكن آخرين لا يرون هذا كرماً خالصاً ويتساءلون لماذا يتبرع الأثرياء بمالهم للمؤسسات الخيرية؟
إذ نقرأ أخباراً عن وارين بافيت سادس أغنى رجل في العالم الذي يفضل التبرع بـ100 مليار دولار بدلاً من توريثها، ومؤسس شركة مايكروسوفت بيل غيتس الذي أسس مؤسسة خيرية أنفقت ملايين الدولارات لمحاربة الأمراض المعدية في الدول الفقيرة، والمستثمر الأمريكي تشارلز مونغر، الذي كون ثروة هائلة تقدر
بـ2.2 مليار دولار أمريكي، وقرر وهو في الـ97 من عمره أن يتبرع بـ200 مليون دولار منها لبناء سكن جامعي في جامعة كاليفورنيا الأمريكية، فضلاً عن تبرعاته السخية الدائمة لتمويل الجامعات والأنشطة العلمية.
لماذا يتبرع الأثرياء بمالهم للمؤسسات الخيرية؟
الإجابة البسيطة التي قدمها تقرير وكالة Bloomberg الأمريكية: "في الولايات المتحدة، إذا تبرعت بالمال لجمعية خيرية فيمكنك (خصمها) من ضرائبك.. إذ لن يكون عليك دفع ضرائب على حصة دخلك التي تبرعت بها".
إذ يقول التقرير إنه يُمكن التهرب من دفع الضرائب في الولايات المتحدة عبر التبرع للأعمال الخيرية، لكن بشكلٍ أو بآخر أصبح هذا الأمر حصرياً على الأغنياء، إذ يوجد قانون للخصم الضريبي الخيري؛ يخصم من ضرائب المتبرعين للأعمال الخيرية، لكن الطريقة التي يتم بها إعداد الخصم لا تسمح للأمريكيين ذوي الدخل المنخفض بالاستفادة منها، خصوصاً بعدما حصر قانون الضرائب الجمهوري لعام 2017 عدد المؤهلين للخصم الخيري من خلال زيادة نسبة التبرع لإقرار الخصم، لتحصر المستفيدين منها على 10% فقط من دافعي الضرائب.
قانون الخصم الضريبي كان يهدف على مدار 100 عام لإفادة الأغنياء، كما وصفه بحث لمجلة Business History Review الأمريكية درس بنود القانون منذ تقديمه في عام 1917، واستنتج البحث أن: "الأثرياء كانوا دائماً أكثر المستفيدين من قانون خصم التبرعات الخيرية"، وأن القانون أُصدر وقتها بهدف تقديم الخدمات للفقراء والأرامل والأيتام والدعم للمستشفيات والمكتبات والجامعات وغيرها من الأعمال من جيوب الأثرياء بدلاً من تحميلها للدولة، فيما يستفيد الأثرياء بتقليل ضرائبهم.
تاريخ قانون الخصم الضريبي
ضريبة الدخل التي فُرضت على الأمريكيين كانت صغيرة في السنة الأولى من فرض القانون؛ إذ كانت أقل من 1%، لكن عندما دخلت أمريكا الحرب العالمية الأولى رُفع معدل الضريبة ليصل لـ67%، وكان المشرعون قلقين من أن يؤدي ذلك إلى قتل المؤسسات الخاصة، ما يجبر الحكومة على تولي المسؤولية عنها.
قبل أن يبدأ العمل الخيري في أمريكا بشكلٍ مؤسسي بإنشاء كل من المستثمر أندرو كارنيغي ورجل الأعمال جون روكفلر منظماتهما الخيرية الشهيرة، لم تكن هناك ضريبة دخل فيدرالية، وبينما كان المشرعون يدرسون فرض ضرائب على الدخل رأوا أن فاعلي الخير مصدر لرأس المال الاجتماعي، خصوصاً مع النظر لتمويل مؤسسة روكفلر Future Perfect على سبيل المثال، لذلك رأوا ضرورة حماية المتبرعين من الضرائب التي تفرض على الدخل لضمان استمرار تبرعهم للجمعيات الخيرية، حتى لا تجد الحكومة نفسها مضطرة لدفع ثمن البرامج الخيرية عوضاً عن المانحين الأسخياء.
لذلك تم تعديل قانون جمع الضرائب في العام 1917 وذلك سبيل حماية التبرعات المقدمة إلى "الشركات أو الجمعيات المنظمة والمدارة حصرياً لأغراض دينية أو خيرية أو علمية أو تعليمية أو إلى مجتمعات لمنع العنف ضد الأطفال أو الحيوانات".
هذا الخصم في الضرائب على الأعمال الخيرية وفر أموال الحكومة، التي سيكون عليها تمويل الأبحاث والمتاحف والمكتبات وبرامج الأطفال إذا لم توجد موارد مالية كافية لتمويلها من الجمعيات الخيرية، وكان المشرعون يرون أن جمع القليل من الإيرادات الضريبية ثمن ضئيل يجب دفعه لإبقاء تلك الالتزامات خارج الميزانية العمومية للحكومة.
على الجانب الآخر، كان الأثرياء يرون في فترة الضرائب الضخمة أن التبرع بأسهم مالية من شركاتهم يوفر عليهم من الضرائب أكثر مما يربحونه في حال احتفاظهم به، خصوصاً أن نسبة الدخل التي سُمح للناس بخصمها من الضرائب ارتفعت من 15% عام 1917 إلى 20% عام 1952 ثم 30% عام 1954، وبالطبع لا يمكن للناس العاديين التبرع بـ30% من دخلهم للأعمال الخيرية، على عكس الأثرياء، الذين يملكون ثروات أكبر من دخلهم السنوي، إلى أن مكنهم تعديل 2017 من التبرع حتى بـ60% من دخلهم، كما أشارت شبكة CNBC الأمريكية الاقتصادية.
في الوقت نفسه، حدثت مجموعة مختلفة من التغييرات على قانون الضرائب تصعب خصم ضريبة الدخل عن الأمريكيين العاديين، ففي العام 1943، أي قبل عام من إدخال هذه التغييرات على قانون الضرائب، كان 75% من الأسر الأمريكية العادية يُمكنها الحصول على خصم المساهمة الخيرية، لكن بالنظر إلى أن 25% المتبقية لم تقدم إقرارات ضريبية، فهذا يعني أن كل الأمريكيين كانوا قادرين على الحصول على خصم المساهمة الخيرية.
لكن بتعديل القانون الذي أُجري عام 1944، وتحديد شروط على نسبة التبرعات وقيمتها أصبح 14% فقط من الأمريكيين من يمكنهم الاستفادة الحقيقية من هذا القانون.
إذ أشار تقرير لموقع The Conversation الأمريكي إلى أن نظام الضريبة الحالي يُمكنه إعفاء جيف بيزوس من 390 مليون دولار على كل مليار دولار يتبرع بها، بينما المتبرع من الطبقة الوسطى الذي يتبرع
بـ100 دولار لا يحصل على أي مزايا ضريبية.
كما أشار تقرير The Conversation إلى ميل الأثرياء إلى التبرع في المشروعات التي لا تضر أرباحهم النهائية، وأيضاً هم وحدهم من يقرر الملفات المهمة التي تستحق أن تضخ فيها ملايين الدولارات.
"يسمح العمل الخيري للأثرياء بمفردهم بتقرير كيفية إصلاح أكبر مشاكل العالم، مثل الفقر وعدم كفاية الفرص التعليمية، لكن المشكلة أن حل هذه المشاكل يتطلب العمل مع الأشخاص الذين تحاول مساعدتهم وفهم التحديات التي يواجهونها"، الكاتب الأمريكي ديفيد كالاهان في كتاب "المانحون".