يعود تاريخ أقدم أسطرلاب تم العثور عليه إلى القرن السادس الميلادي عندما كان يستخدمه العلماء المسلمون كأداة لمراقبة النجوم والكواكب والمد والجزر وغيرها الكثير من الاستخدامات التي يحتاجها المسلمون في حياتهم اليومية.
ورغم أنَّ فضل تطوير وانتشار هذه الآلة يعود للمسلمين، فإنها ذُكرت لأول مرة في مدرسة الإسكندرية على يد "أريستارخوس الساموسي" Aristarchus of Samos، الذي ينسب إليه استعمال آلة لرصد السماء، ويأتي من بعده "هيبارخوس" Hipparchus الذي اعتبره البعض أعظم فلكي في العالم القديم.
فخلال الخلافة العباسية، حظيت العلوم برعاية كبيرة من حكام تلك الحقبة، وتُرجمت العديد من الأعمال اليونانية إلى العربية، والتي تغطي مختلف مجالات العلوم، من ضمنها علم الفلك والتنجيم واختراع الأسطرلاب.
تم تقديم الأسطرلاب وتطويره في القرون الثمانية الأولى للحضارة الإسلامية، وأصبح أداة أساسية في المراقبة والحساب، حيث استخدمه علماء الفلك المسلمون في المراصد الفلكية، حسبما ذكر كتاب "تتبُّع تاريخ اختراعات الأسطرلاب عبر الحضارات".
حتى الخليفة المأمون، استخدمه في حياته اليومية لممارسة شعائر الصلاة، بعدما فتحت العلاقة الوثيقة بين الإسلام وعلم الفلك فرصاً لاختراع وتطوير وظائف مختلفة لهذه الأداة متعددة المهام مثل حساب مواقيت الصلاة وتحديد اتجاه القبلة، وهو ما يتطلب قدرات متقدمة وهائلة في علم الفلك، لتحديد مواعيد شروق الشمس وغروبها، على سبيل المثال لا الحصر.
ويُنسب فضل بناء الأسطرلاب في العالم الإسلامي إلى عالم الرياضيات محمد الفزاري.
ومن بين الأعمال التقليدية الموجودة في الأسطرلاب ما كتبه الخوارزمي، الذي ألف رسالتين قصيرتين تتعلقان بتطور الأسطرلاب ووظائفه.
أما الموروثات الأخرى فتُنسب إلى علي بن عيسى وأحمد بن محمد بن كثير.
إذ شارك علي بن عيسى أيضاً في الملاحظات التي أجريت في بغداد ودمشق تحت إشراف الخليفة المأمون.
وفي أوائل القرن الحادي عشر، ناقش العالم الفارسي البيروني المشهور بكتاب "التعليمات في عناصر فن التنجيم"، بناء الأسطرلاب وأجزائه ووظائفه.
كما تمكن العلماء المسلمون من ابتكار أسطرلاب مُحسَّن ومحدّث، لتحظى هذه التحسينات بعد ذلك باحترام وتقدير كبيرين.
وسرعان ما بدأ صانعو الأدوات في تعلُّم وتطوير المهارات المتعلقة بالأسطرلاب، وتمكنوا من الحفاظ على نجاح أعمالهم لسنوات عديدة.
وبحلول القرن العاشر، وصف الصوفي لأول مرةٍ أكثر من 1000 استخدام مختلف للأسطرلاب، في مجالات متنوعة مثل علم الفلك والتنجيم والملاحة والمسح وضبط الوقت والصلاة واتجاه القبلة، إلخ.
أما الأسطرلاب الميكانيكي الموجه، فاخترعه العالم محمد بن أبي بكر الراشدي الأيوبي الأصفهاني في العام 1235.
الطريقة التي أدى بها الإسطرلاب جميع هذه الوظائف هو "الإسقاط المجسمي"، بمعنى أنه كان يقدم صورة ثلاثية الأبعاد للسماء ليلًا يتم تمثيلها على سطح ثنائي الأبعاد.
صانعو الأسطرلاب
مع الوقت اكتسب صانعو الأسطرلاب شهرة خاصة بهم، إذ كانوا يمهرون منتجاتهم بأسمائهم ومكان وتاريخ صناعة الآلة.
وجود هذه المعلومات سهَّل اكتشاف أصل الأسطرلاب من أجل تحديد وفهم العلاقة بين الصانع وبيئته والتكنولوجيا المستخدمة.
كان الأندلسي إبراهيم بن يحيي الزرقالي من أشهر بين العلماء المسلمين الذين برعوا في تطوير الأسطرلاب. اشتهر بمهارته واخترع شكله الخاص من الأسطرلاب، وأضاف عليه الصفيحة كتقنية مدمجة.
وتتكون الصفيحة أو ما سُمي بـ"الطبلة"، من خط العرض المحلي لمكان مع الارتفاع والسمت، وتعمل أيضاً كخريطة لمواقع النجوم.
تمت ترجمة كتب ابن الزرقالي إلى اللاتينية، إذ اشتهر بقدرته على حساب مواعيد الكسوف والخسوف وحساب المسافة بين القمر والأرض وبين النجوم والشمس، بينما ضاعت النسخة العربية من الكتاب.
لاحقاً، تم إدخال الأسطرلاب إلى إسبانيا عبر قرطبة، العاصمة الأموية، وسرعان ما انتهز العلماء في جميع أنحاء إسبانيا الفرصة لتعلُّم سبل استخدامه.
وبدءاً من أواخر القرن العاشر، أنتج المسلمون في إسبانيا الأسطرلاب والرسائل المتعلقة باستخداماته.
ولاحقاً عدل صنّاع الأسطرلاب في إسبانيا عليه؛ ليمنحوه خصوصية تتعلق بجغرافيا المكان ولغته وليتم تفريقه عن الأسطرلاب العربي.
ممَّ يتكون الأسطرلاب؟
يتكون الأسطرلاب من 4 قطع رئيسية:
– "الأم" أو لوحة القاعدة.
– الصفيحة الشبكية أو العلوية التي تشبه شبكة العنكبوت والتي تُظهر النجوم الثابتة ومسير الشمس (الأبراج الفلكية وجزء من السماء الذي تنتقل عبره الشمس) ونجوم يمكن رؤيتها بالعين المجردة.
– اللوحات: كل منها مصنوع لخط عرض مختلف. وقد نقشت على كل لوحة شبكة تحدد السمت (نقطة فوق الرأس مباشرة)، والأفق وجميع الارتفاعات بينهما.
– العضاضة أو القاعدة مع المشاهد المستخدمة لعمل الملاحظات وقراءة المقاييس.
تاريخ الأسطرلاب
انتقل الأسطرلاب، الذي يُترجم حرفياً إلى "آخذ النجوم" باللغة اليونانية، من أوروبا إلى العالم الإسلامي بحلول القرن الثامن.
في حين أن الأجهزة من مناطق وفترات زمنية مختلفة يمكن أن تتنوع بشكل كبير، اعتماداً على الغرض المقصود منها ومن صنعها، يتفاوت حجمها بين صغيرة مثل صحن القهوة، وكبيرة مثل غطاء قدر كبيرة.
ويمكن صناعتها من أي شيء، سواء الخشب أو النحاس.
ونظراً إلى أن جغرافية السماء تتغير وفقاً لخط العرض حيث يوجد الإنسان، فإن الأسطرلاب يأتي عادةً بسلسلة من الصفائح المرتبطة بخطوط عرض مختلفة للمدن الكبيرة.
وعلى الرغم من أنه كان من الممكن أن تكون مصنوعة من مجموعة متنوعة من المواد، فإن الغالبية التي لاتزال سليمة حتى اليوم مصنوعة من النحاس، مزخرفة للغاية، وغالباً ما ترتبط بالنخبة المتعلمة.
استخدامات الأسطرلاب
يشتهر الأسطرلاب بأنه كان الأداة الشائعة التي طورها المسلمون لمعرفة وجهة الصلاة نحو مكة المكرمة إلى جانب مواعيد ومواقيت الصلاة.
ثم أصبحت فيما بعد، شائعة بين الأوروبيين خلال العصور الوسطى كأداة فلكية لاتخاذ قرارات تتراوح بين وقت الذهاب إلى المعركة وكيفية إجراء المعاملات المصرفية.
يقول عالم الفيزياء بجامعة هارفارد جون هوث، لموقع Smithsonian، إن هذه القرارات غالباً ما كانت تستند إلى لوح الأبراج الذي كان النخبة يحملونه آنذاك.
ويوضح أن الأسطرلاب شق طريقه في مجالات العلوم الأخرى، وضمنها علم الأرصاد الجوية. إذ اعتمد علماء الأرصاد الجوية من زمن بطليموس حتى القرن التاسع عشر، على علم التنجيم للتنبؤ بالطقس، وبدون أقمار صناعية أو رادارات توفر تحديثات آنية لكل عاصفة وشيكة كما يتم الآن.
وحسب ما قالته أمينة في المرصد الملكي غرينتش في إنجلترا، لويز ديفوي، تم العثور على العديد من الأسطرلابات في حطام سفن البحارة الإسبان والبرتغاليين، قبالة الساحل الغربي لأيرلندا.
ولكن بحلول القرنين السابع عشر والثامن عشر، أصبحت الساعات الميكانيكية أكثر موثوقية وبأسعار معقولة.
علاوة على ذلك، تم تطوير مناهج عقلانية جديدة للعلم، وبدأ إيمان الناس بعلم التنجيم يتضاءل، وبالتالي تلاشت حاجتهم إلى الأسطرلاب.
ومع ذلك، تقول ديفوي إنه في الأعوام العشرين الماضية، أعادت البشرية إحياء مفهوم الأسطرلاب في شكل الهاتف الذكي متعدد المهام والقابل للتكيف والتعديل.
وحالياً، توجد أكبر مجموعة في العالم من الأسطرلابات بمتحف تاريخ العلوم الموجود في أكسفورد، بالمملكة المتحدة. ويضم المتحف ما يقرب من 20 ألف أداة علمية تاريخية تغطي مجموعة واسعة من المجالات، مثل الرياضيات والبصريات والكيمياء والفلسفة والطب من العصور الوسطى التي شهدت العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، حتى القرن العشرين.
من الصعب عدم الاعتراف بدور هذه الأداة في حياتنا حتى لو لم يتم استخدامها على نطاق واسع في الوقت الحاضر، فقد لعبت دوراً رئيسياً في الماضي واستمر تأثيرها حتى الآن.
تعتمد التقنيات الحديثة مثل GPS وعلوم الفضاء ومعدات الملاحة على نظريات الأسطرلاب، لذا عند السفر أو استخدام أجهزة الحديثة، لابد من الاعتراف بفضل العلماء المسلمين في إثراء المعرفة البشرية.