هل يعتبر شيء ما لغزاً إذا لم يُعرف عنه شيء في المقام الأول؟ أو بعبارة أخرى: كيف يمكن تحديد ما هي أكبر عملية سرقة فنية، إذا بقيت مخفية بعيداً عن العيون؟
لم تمنع هذه الأسئلة ولا الألغاز مخرجين مولودين في مدينة بوسطن الأمريكية من تقصي الحقائق حول هذا الحدث الذي بقي لغزاً في المدينة لعشرات السنين.
حدثت السرقة في عيد القديس باتريك في شهر مارس/آذار من العام 1990 في عتمة الليل، إذ تمت سرقة 13 عملاً فنياً بينها لوحتان نادرتان لرامبرانت من متحف إيزابيلا ستيوارت غاردنز.
في ذلك الوقت، قدر الخبراء قيمة الخسارة بنحو 200 مليون دولار، أما اليوم، فتبلغ قيمة المسروقات حوالي 500 مليون دولار، وهي ليست فقط أكبر سرقة فنية في التاريخ، بل أكبر سرقة للممتلكات الخاصة على الإطلاق، حسب ما وصفها موقع Mutual Art الفني.
وحتى عام 2021، لم يتم العثور على أي من هذه اللوحات، ولا حتى التعرف على السارقين. وضعت جائزة بقيمة 10 ملايين دولار لمن يساعد المحققين، ما زالت معروضة حتى اليوم.
مر أكثر من 30 عاماً على الحادثة بلا أي تطورات أو حتى اهتمام إعلامي يضعها في دائرة الضوء أو يدفع الشرطة لإعادة فتح ملفها.
جميع هذه الألغاز والأسئلة التي بقيت بلا إجابات، ألهمت المخرجين الأخوين نيك وكولين بارنيكل لصناعة مسلسل وثائقي يدعى This is Robbery.
ولعل التحدي الأول الذي واجه المخرجين عند صناعة العمل كانت معرفة الناس بوقوع هذه الحادثة أصلاً.
وقال كولين: "أنا أعتقد حقاً أن 99% من الناس لا يعرفون شيئاً عن هذه القصة".
ماذا حدث في المتحف تلك الليلة؟
في الساعات الأولى من يوم 18 مارس/آذار 1990، دخل رجلان يرتديان زي ضباط شرطة بوسطن إلى المتحف من باب جانبي تم فتحه إلكترونياً؛ وهو مبنى وصفته صحيفة نيويورك تايمز بأنه "مكان مثير للذكريات ويكاد يكون سحرياً؛ حيث زارته أجيال من سكان بوسطن محبة للفن إما لعيش لحظة من العزاء أو لإشعال الرومانسية".
سيطر اللصان فوراً على اثنين من حراس الأمن المناوبين، ودفعاهما إلى الطابق السفلي وقيدا أيديهما وأرجلهما بالأشرطة اللاصقة، حسب ما نشر موقع NPR الأمريكي.
ثم على مدى 81 دقيقة متواصلة، تجول اللصان في المتحف بحرية كاملة.
قطع اللصان من الإطارات لوحة "المسيح في العاصفة على بحر الجليل" أو بحيرة طبرية للرسام الهولندي من القرن السابع عشر رامبرانت (تحديداً عام 1633)، وهي اللوحة الوحيدة التي رسمها رامبرانت في البحر، إلى جانب لوحة أخرى له تدعى "سيدة ورجل نبيل بالأسود".
كما انتزعا لوحات أخرى من الإطارات وأعمالاً معلقة على الجدران والركائز المخصصة للعرض.
ما سر لوحة المسيح في بحر الجليل؟
تصور اللوحة الرواية الإنجيلية عن إحدى معجزات السيد المسيح، عليه السلام، المذكورة في الإنجيل، وهي معجزة تهدئة العاصفة.
كان المسيح مبحراً مع تلاميذه الاثني عشر في بحيرة طبرية، حين أيقظ التلاميذ المسيح بينما كان نائماً مستنجدين به بعد أن دب بهم الرعب عند اشتداد العاصفة، فأمر الريح بالسكون، فهدأت العاصفة، فيقول المسيح الجملة الشهيرة: "لماذا أنتم خائفون، يا قليلي الإيمان؟".
أما اللوحة فتكتسب شهرتها من أنها اللوحة الوحيدة التي صورت المسيح في البحر إلى جانب تعابير دقيقة على وجوه التلاميذ بمواجهة هدوء المسيح الذي استطاع بالإيمان أن يروض جبروت الطبيعة، حسب الرواية.
لم يتجاوز اللصان أجهزة استشعار الحركة، التي كانت مفعلة وقدمت لاحقاً خريطة افتراضية لخطواتهم. لكن في ذلك الوقت، لم تكن الأجهزة متصلة بأي مصدر خارجي.
وفي تمام الساعة 2:45 صباحاً، بعد رحلتين إلى العربة التي كانت ستقلهما، ابتعد المجرمان بهدوء داخل عربة محملة بثروة بالمعنى الحرفي للكلمة.
في صباح ذلك اليوم، اكتُشف الحراس مقيدين دون أن يصابوا بأذى، عندما وصلت أطقم التنظيف لمزاولة عملها اليومي.
أكبر سرقة فنية في التاريخ.. ضد مجهول
وصفت السرقة وقتها بأنها أكبر سرقة فنية في التاريخ، تناقلت أخبارها وسائل الإعلام وبدأت الشرطة ووكالة التحقيقية الفدرالية تحقيقاتها، ثم ما لبث الموضوع أن خرج من الاهتمام الإعلامي والوعي الشعبي تدريجياً.
من سرق اللوحات، وأين هي اليوم؟ كانت هذه أهم الأسئلة خلف الوثائقي الذي استغرق إعداده وتصويره 8 أعوام.
مدة المسلسل 4 ساعات، ويناقش فرضية الاشتباه بحراس الأمن الذين اعتبروا المشتبه الأكبر، ثم السارق الفني المعروف للشرطة آنذاك ويسمى مايلز كونور، وغيرهم الكثير.
توفي الكثير من المشتبه فيهم خلال هذه الفترة ولم تظهر الأعمال الفنية بعد.
واكتفت السلطات باتهام عصابات المافيا الإيرلندية أو الإيطالية دون تحديد أي أسماء، مع ترجيح استخدام هذه اللوحات كورقة ضغط للخروج من السجن لأن بيعها أمر مستحيل بسبب شهرتها.
ويعتقد المخرجان أن منصة نتفليكس تستطيع نشر أخبار هذه السرقة وإعادة الاهتمام بمصير الأعمال الفنية.
وتوقعا أن يتم العثور على اللوحات، ولكن ربما من قبل الأجيال المقبلة عندما يكتشف شخص ما اللوحة بالصدفة في إرثه من أبيه أو جده فتظهر التحف الفنية من جديد وتعود لأصحابها الشرعيين.