في الوقت الذي دخل فيه الملك خايمي، ملك أراجون، مدينة بلنسية (في عام 1238) وكانت حواضر الأندلس ومدنها الكبرى تسقط في يد الممالك النصرانية، كان ابن الأحمر، أمير غرناطة المسلم، يبسط سلطانه على جنوب الأندلس، وكان القشتاليون في ذلك الوقت يقومون بغارات على مدينة جيان وأرجونة الموجودة في جنوب الأندلس (جنوب إسبانيا حالياً).
وبعد استيلاء القشتاليين على قرطبة (عام 1236) عزم ابن الأحمر على قتالهم فخرج من غرناطة في قوة كبيرة قاصداً مرتش، وهي بلدة حصينة في جنوب غرب جيان، في خطوة منه لاستعادة المدينة ووقف الزحف القشتالي على مدن الأندلس.
ومع تقدم ابن الأحمر إلى مرتش، وقعت معركة بينه وبين القشتاليين بقيادة دون رودريجو، وهو أخو ملك قشتالة غير الشرعي، وفيها هُزِمَ القشتاليين وقتل من فرسانهم عدداً كبيراً، وبهذا توقفت الغارات القشتالية لمدة 6 سنوات.
سقوط أرجونة وجيان أنذر بسقوط إشبيلية
بعد 8 سنوات (في عام 1244) استعاد، فرناندو ملك قشتالة، قوته من جديد، وصوب وجهته نحو جيان وأرجونة للاستيلاء عليهما. وبدأ فرناندو بأرجونة ففرض عليها الحصار حتى أحس أهلها بأن لا أمل في الصمود، فسلموها له دون قتال وغادروها حاملين أمتعتهم.
كانت الخطوة التالية الاستيلاء على جيان، أحد أهم أهداف فرناندو، حيث توجد بها قلعة حصينة، كما يمكن الاعتماد عليها كمركز للقشتاليين في خطة الاستيلاء على أجزاء مهمة في جنوب الأندلس. من أجل ذلك، كانت هناك محاولات مبكرة للاستيلاء على جيان، حيث حاصرها فرناندو (في عام 1230)، لكنه أخفق في الاستيلاء عليها.
وبعد الاستيلاء على أرجونة، عاد فرناندو في شتاء (عام 1245) وحاصر جيان، ولم يكن هذا الحصار هيناً على جيش قشتالة لوقوعه في فصل الشتاء. وقد استمر الحصار شهراً فيما ظلت جيان صامدة وكان أهلها يخرجون لمقاتلة القشتاليين، فقتلوا وجرحوا كثيراً منهم، إلا أن مدينة جيان كانت تعاني نقصاً في الطعام والمواد الأساسية.
نتيجة لذلك أرسل والي جيان أبو عمر بن موسى إلى ابن الأحمر يستغيث به، فأرسل إليه قافلة كبيرة من المؤن استطاعت أن تصل إلى المدينة، لكن مع طول الحصار نفدت المؤن من أهل المدينة، في حين قام القشتاليون بغارات على غرناطة عدة مرات حيث كان ابن الأحمر، يترقب الموقف بمنتهى الحذر، وهو ما دعاه يحاول مفاوضة فرناندو.
يذكر الكاتب والمؤرخ المصري محمد عنان في كتابه "دولة الإسلام في الأندلس" أن فرناندو كان لديه مبدأ واحد لا بديل عنه، وهو أن يُخضِع ابن الأحمر لسيادته، فاضطر ابن الأحمر إلى ذلك للحفاظ على مدينة جيان، وعقد مع فرناندو معاهدة سلام وتحالف، خلاصتها أن تُسلم مدينة جيان لملك قشتالة، وأن يحكم ابن الأحمر مملكة غرناطة وسائر أراضي التي حولها، باعتباره تابعاً لملك قشتالة.
نصت المعاهدة كذلك على أن يتعاون ابن الأحمر مع قشتالة في السلم والحرب، وأن يحضر "الكورتيس" وهو مجلس قشتالة النيابي، وأن يدفع لملك قشتالة مبلغاً قدره 150 ألف مرافيدي (عملة قشتالة) تؤدى خلال 20 عاماً وهي مدة المعاهدة.
على إثر ذلك، دخل القشتاليون مدينة جيان (في عام 1246) وحولوا جامعها في الحال إلى كنيسة، وغادرها معظم أهلها المسلمين، فوزعت منازلهم على الفرسان القشتاليين.
يقول الكاتب والشاعر العربي الأندلسي لسان الدين بن الخطيب في كتابه "اللمحة البدرية": "هكذا اشترى ابن الأحمر سلامته وسلامة مملكته بهذا الثمن الفادح لكي يتفرغ إلى تنظيم مملكته وتوطيد سلطانه الداخلي، وهو ما ساهم في توجه الأنظار نحو إشبيلية آخر حواضر الأندلس المتبقية خارج حدود مملكة ابن الأحمر".
زيادة المطامع في إشبيلية
في هذه الآونة وبعد سقوط قواعد الأندلس الكبرى الشرقية والوسطى (قرطبة وبلنسية وشاطبة ودانية وأخيراً جيان) في فترة لم تزد على 10 سنين، كان لا يتبقى من الأندلس إلا الحواضر الجنوبية التي كان معظمها يقع تحت قيادة ابن الأحمر في ظل مملكة غرناطة، فاتجهت أنظار القشتاليين إلى إشبيلية (الجنوب) غير المنضوية تحت سلطان ابن الأحمر، والتي تمتاز بخطوط دفاع وحصون قوية.
كانت إشبيلية كبرى حواضر الأندلس وأكثرها كثافةً سكانياً وأكثرها حصوناً وقلاعاً، وكانت أيضاً من المدن التي ثارت على سلطان الموحدين، وقام أهلها بخلعه، وبعد رحيل حكم الموحدين عن إشبيلية؛ قام أهل إشبيلية بالثورة على العديد من الحكام الذين توالى حكمهم على المدينة دون استقرار حكم أي أحد منهم.
وبعد صراع طويل مع العديد من الحكام، آل الحكم إلى عمرو بن الجد (في عام 1245) وهو أحد كبار زعماء إشبيلية، والذي قام بمعاهدة فرناندو ليأمن من تغول القشتاليين في جنوب الأندلس، وكذلك أعلن دخوله تحت لواء الدولة الحفصية التي حكمت أجزاء كبيرة من المغرب العربي.
بدورها؛ أرسلت الدولة الحفصية الوالي الجديد ومعه حاشيته والذي يذكر عنان أنه قام بالعديد من الأشياء الفاسدة، بسبب ذلك طرد أهل إشبيلية والي الدولة الحفصية، وقتلوا ابن الجد، وتولى الحكم في إشبيلية معارضو ابن الجد، والذين أعلنوا بدورهم بطلان المعاهدة مع فرناندو.
غضب ملك قشتالة مما حدث، وأخذ فض المعاهدة ومقتل عمرو ابن الجد ذريعةً لدخول إشبيلية، خصوصاً بعدما أصبحت معزولة عن كل القوى والممالك الإسلامية التي عادتها بطرد حكامها، والتي لن ينجدها أحد، أي إشبيلية، ولا من ابن الأحمر بسبب طرد أهل إشبيلية له من قبل أيضاً، إلا أن حصار المدينة مع ذلك لم يكن سهلاً، إذ كانت تتصل إشبيلية بالبحر عن طريق نهر الوادي الكبير، وهو ما يمثل للمدينة رئة على العالم تستطيع الحصول منه على ما تريد من مؤن واحتياجات.
مع ذلك عمل فرناندو على خطة للاستيلاء على المدينة، وكانت خطته تهدف لحصار حصون المدينة من سائر النواحي، والعمل على تخريب الحقول التى تمد المدينة بالمؤن، ومحاصرتها من ناحية البحر بالسفن لمنع أى إمدادات قد تصل للمدينة.
سقوط الحصون الأمامية
وفقاً للخطة التي وضعها؛ سيّر فرناندو سفنه إلى مصب الوادي الكبير. وفي خريف عام 1246 بدأ الحصار، ووافاه ابن الأحمر -حليفه وتابعه- بقوة قوامها 500 فارس لمساندة فرناندو طبقاً للمعاهدة بينهما. وسارت القوات المشتركة نحو قلعة جابر، وهو حصن إشبيلية الجنوبي الشرقي، واستطاع ابن الأحمر إقناع حاميتها الإسلامية بتسليمها دون قتال حقناً للدماء.
وبذلك تسلم فرناندو القلعة، وفي الحال أرسل قواته لتخريب الأراضي حول إشبيلية كما هو موضوع في خطته، وفي هذه الأثناء وصل إلى فرناندو نبأ وفاة والدته، الأمر الذي عطل الحملة عن تحقيق مرادها بحصار إشبيلية والاستيلاء عليها.
وقبل عودته من جديد لحصار إشبيلية، اتفق فرناندو مع البابا على أن تخصص الكنيسة ثلث إيراداتها للمساهمة في نفقات الحرب، وبذلك استطاع فرناندو زيادة الأسطول البحري وامداده بالمؤن، وفي صيف عام 1247 اتجه فرناندو إلى قرطبة -التي اتخذها مركزاً لتجهيز الحملة- وهناك احتشدت القوات، فسير فرناندو بعض قواته إلى قرمونة -أمنع حصون إشبيلية من ناحية الشمال الشرقي- فخرب الحقول المحيطة بها.
ثم لحق به ابن الأحمر ومعه قواته، وطوقوا قرمونة بحشود ضخمة، ونظراً لضخامة حشود الحصار، وبعد 6 أشهر قرر أهل قرمونة تسليمها، إذا لم يأت لها أي مؤن. وأكمل فرناندو المسير نحو إشبيلية في محاذاة نهر الوادي الكبير. وفي طريقه كان فرناندو يأخذ كل ما يقابله إما عنوةً، أو بالتسليم والدخول في طاعته.
وبهذا وضع فرناندو يده على الكثير من المدن في شمال إشبيلية، وأصبحت كل الحصون الأمامية لإشبيلية من الشرق والشمال والغرب كلها في أيدي القشتاليين.
فرض الحصار ومقدم الأسطول الحفصي
وفي أغسطس/آب من عام 1247 خرج فرناندو في قواته للإجهاز على إشبيلية التي كان أهلها متأهبين للدفاع عن مدينتهم وصد هذا الحصار. وكان الأسطول يتألف من 13 سفينة كبيرة بالإضافة لعدد من السفن الصغيرة، والذي توجه إلى مصب الوادي الكبير وبدأ الحصار البحري في منع أي مساعدات قادمة للمدينة.
وهنا، يسجل لنا التاريخ ولا سيما الرواية النصرانية – طبقاً لما رواه عنان – استبسال أهل إشبيلية في الدفاع عن مدينتهم التي استمر حصارها 15 شهراً، فكانوا يخرجون ليصدوا هجمات الجنود القشتاليين على القرى المحيطة والمزارع، ويقاتلونهم كراً وفراً.
وتقول الروايات النصرانية إنه وعلى غير المتوقع، قادت الدولة الحفصية تحالفاً شكل أسطولاً من السفن الإسلامية -والتي كان معظمها قادم من الدولة الحفصية في المغرب- جاء لنصرة أهل إشبيلية وصد العدوان القشتالي عنهم، عن طريق التواجد في مياه الوادي الكبير وإمداد أهل إشبيلية بما يحتاجونه، حيث كانت السفن الإسلامية في مصب الوادي الكبير تفسح الطريق للمؤن والإمدادات الواردة من المغرب وتحميها حتى تصل إلى المدينة.
كما حاولت السفن الإسلامية حرق السفن القشتالية بصبّ أوعية مملوءة بالزيت والمواد الملتهبة على السفن القشتالية ومن ثم إحراقها، إلا أن الأسطول القشتالي أدرك الحيلة، ونشب بين الأسطولين معركة شديدة استطاع المسلمون فيها أن يقذفوا موادهم الملتهبة على سفن القشتاليين، إلا أنهم استطاعوا إخماد النيران في بدايتها وفشلت المحاولة.
وصول التعزيزات النصرانية
وفي أوائل عام 1248 بدأت الإمدادات في القدوم لفرناندو، فوصلت قوة من فرسان كتالونيا بقيادة ألفونسو ولي عهد مملكة أراجون، وقوة من فرسان البرتغال، وبسكونية وجلّيقية وغيرها العديد من الممالك الأوروبية النصرانية، كما وفد كثير من الأساقفة والرهبان وفرسان الجماعات الدينية.
وبعد مضي 9 أشهر من بداية الحصار، ومع تزايد عدد الجنود التابعين لفرناندو، أُحكم الحصار على إشبيلية ولم يستطع الأسطول الإسلامي اختراق ذلك الحصار ولا الوقوف ضده ومحاربته، فتركوا المدينة لمصيرها، ليدب فيها شبح الجوع.
وكانت قلعة طريانة -المتواجدة في جنوب إشبيلية- من القلاع المتبقية لأهل إشبيلية، فبدأوا في تحصينها لتلمس الغوث من خلالها، وفي الجهة الأخرى كان النصارى يركزون جهودهم على أخذ قلعة طريانة، وتدمير القنطرة التي تربط القلعة بمدينة إشبيلية.
وفي مايو/أيار من عام 1248، نجحت قوات النصارى في قطع تدمير القنطرة، وكان ذلك ضربة قوية للمسلمين، لانقطاع الطريق بين طريانة والمدينة، وبدأت التجهيزات من قبل قوات النصارى للاستيلاء على قلعة طريانة، لكن القوة الدفاعية المكونة من أهل إشبيلية كانت قد شُحنت بالسلاح والمؤن والرجال وبالأخص الرماة.
وعندما هجم النصارى، استطاع المسلمون تحطيم الهجوم الأول بسرعة، وتكرر الهجوم عدة مرات لكن المسلمين استطاعوا إحباط كل المحاولات. ولما تكرر فشل قوات النصارى في الهجوم، أمر فرناندو الحفارين أن يحدثوا ثغرة في السور، إلا أن المسلمين نجحوا في إحباط هذه المحاولة أيضاً.
فلجأ النصارى أخيراً إلى حصار القلعة براً وبحراً، وتخريبها بالمنجنيق، وبعد مجهود كبير استطاعوا قطع كل صلة بين طريانة وإشبيلية وازداد الحصار على طريانة حتى نفذت المؤن وأخذ الجوع يفتك بالمحاصرين.
ويصف المؤرخ المغربي ابن عذارى في "البيان المغرب" حالة المدينة المحاصرة قائلاً: "وعدموا المرافق كلها، قليلها وجليلها، إلا ما كان في بعض ديار الأغنياء والناس يمشون سكارى وما هم بسكارى، ومات بالجوع خلق كثير، وعدمت الأطعمة من القمح والشعير، وأكل الناس الجلود".
فطلب القائد شقاف، قائد قلعة طريانة، الهدنة من النصارى ليتمكن من الاتصال بأهل المدينة والتفاهم معهم على التسليم، فوافق فرناندو وبدأ شقاف بحث الموقف، ومن ثم بدأت المفاوضات بين زعماء إشبيلية وبين ملك قشتالة وأرسلوا إليه أنهم موافقون على تسليم جزء من المدينة، إلا أن فرناندو أبى إلا أن يأخذ كامل المدينة دون شروط.
المعاهدة وهجرة أهل إشبيلية
في نهاية الأمر، ما كان من أهل إشبيلية إلا الموافقة على ما أراد فرناندو بتسليم المدينة كاملة، لكن بشرط أن يغادر أهلها بأسلحتهم وأمتعتهم وأموالهم، وفي يوم 23 نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1248 خرج أهل إشبيلية من مدينتهم، وأصبح هذا اليوم هو يوم سقوط إشبيلية.
تقدر بعض الروايات -طبقاً لما أورده عنان- عدد الخارجين من إشبيلية بـ 400 ألف، منهم 100 ألف هاجروا بحراً إلى سبتة في المغرب، و300 ألف خرجوا براً إلى شريش وتفرقوا في مختلف أنحاء الأندلس. وكان في مقدمة من غادرها القائد شقاف، وقد عرض عليه النصارى بعض المنح والإقطاعات مقابل أن يصبح من قادتهم، فلم يلتفت إلى ذلك وعبر البحر إلى سبتة.
وفي 22 ديسمبر/كانون الأول من عام 1248 دخل فرناندو المدينة، وقام بتحويل المسجد الجامع إلى كنيسة، وأقاموا قداساً، ومن هذا اليوم أصبحت إشبيلية عاصمة مملكة قشتالة بدلاً من طليطلة.
وهكذا؛ سقطت إشبيلية حاضرة الأندلس العظمى بعد أن حكمها المسلمون 5 قرون وثلث القرن، منذ عام 712 أثناء فتحها على يد القائد موسى بن نصير.
وكانت إشبيلية -إلى جانب قرطبة- من أعظم مراكز العلوم و الآداب في الغرب الإسلامي، وكانت أعظم حواضر شبه الجزيرة الأسبانية وأزخرها عمراناً، وأجملها تخطيطاً وصروحاً وجامعها الكبير أعظم جوامع الأندلس -بعد جامع قرطبة- ومنارته الشاهقة الرائعة التى تقوم حتى اليوم أثراً من أعظم الآثار الأندلسية الباقية رغم تحويلها إلى برج لدق أجراس الكنيسة.