لو شاءت الأقدار وقدّر لك في يوم من الأيام زيارة روسيا فإنّ أحد الأشياء التي ستلفت انتباهك عندما تمشي في إحدى غاباتها أو حدائقها هو احتضان الناس لأشجار البتولا، كما لو أنهم يحضنون شخصاً عزيزاً على قلوبهم، فما هو السر وراء ذلك؟
لماذا يعانق الناس الأشجار في روسيا؟
بما أنّ الشعب الروسي معروف بطيبته، فإنهم يتقبلون أي سؤال يأتيهم من الغرباء، ويجيبونه بكل رحابة صدر، خصوصاً فيما يتعلق بسر علاقتهم مع هذه الأشجار، وكي لا نترك الفضول داخلك سنعرفك على ما تعنيه هذه الشجرة لهم.
ليست طقساً دينياً وإنما عادة متوارثة
يقول الروس إنّ سبب عناقهم لأشجار البتولا لا علاقة له بالطقوس الدينية، وإنما هي عادة توارثوها عن أجدادهم، وذلك وفقاً لما ذكرته المكتبة العربيّة الروسيّة.
ويرى الناس أنّ عناق الشجرة له حسب رأيهم عدة فوائد، منها أنّ الطاقة هي مصدر قوة الإنسان، إذ يتم تشجيع الناس في روسيا منذ طفولتهم على تأمل الأشجار وعناقها، وأنها تمتص الطاقة السلبية، وتمنحهم طاقة إيجابية بدلاً منها.
بالإضافة إلى أنهم ينظرون لأشجار البتولا بشكل خاص على أنها مصدر للشفاء العاطفي والجسدي.
في الحوار مع الطبيعة ليست هناك حاجة للكلمات
يقول أحد الأمثال الشعبية الشهيرة في روسيا: "في الحوار مع الطبيعة ليست هناك حاجة للكلمات".
وتوضح المكتبة العربية الروسية أنَّ علماء الفيزياء الحيوية أثبتوا الخصائص الفريدة للأشجار لشفاء شخص ما من بعض الأمراض، حتى إنّه في العصور القديمة كان شعب الدرويد في بلاد الغال وبريطانيا، وشعب القلط الذي استوطن مناطق واسعة من أوروبا والأناضول، كانوا يتقنون معرفة خصائص الأشجار.
بالإضافة إلى أن الشعب الياباني أيضاً يعتمد على الأشجار في عاداته وتقاليده، فهم يفضلون دائماً الاستحمام في الغابة، والمشي بين الأشجار للتخلص من التوتر والطاقة السلبية.
هل يمكنني عناق الشجرة من أي مكان؟
يعتقد الشعب الروسي أنَّ النباتات تكون أكثر قوة وتأثيراً في الصباح الباكر، كما أنّ الجهة التي تعانق فيها الشجرة أيضاً لها دور في تحديد الطاقة التي تمنحك إياها.
مثلاً إذا أردت أن تجدد طاقة جسمك فكل ما عليك فعله هو عناق الشجرة من جهتها الجنوبية، أما إذا أردت أن تتخلص من التوتر فعليك عناقها من الجهة الشمالية، أو من خلال الوقوف مع إدارة ظهرك إليها وخفض يديك للأسفل واللمس براحة يديك بلطف على جذعها.
أشجار البتولا ورمزيتها الوطنية
بما أنّ شجرة البتولا كانت من الأشجار المنتشرة بكثرة في جميع أنحاء روسيا الوسطى، فقد تم اعتبارها منذ القدم على أنها شجرة وطنية روسية.
ووفقاً للأمثال والمعتقدات الشعبية المذكورة في كتاب Calendar of Russian Nature، "تقويم الطبيعة الروسية"، للمؤرخ "أكسندر ستريزيف"، فقد اعتبر الوثنيون السلاف القدماء أنّ معانقة أشجار البتولا السحريّة علامة على الحظ السعيد، وأنها تمنح الشخص القوة والفرح.
في حين يشير موقع Russia Beyond أنّ البتولا لطالما كانت تقارن بالسيدات، إذ كان جذعها الرفيع يرتبط بالجسد الرقيق للفتاة الشابة، وأنّ أغصانها المنتشرة بكثرة تشبه ضفائرهن.
كما أنّ البتولا تحتوي على أزهار تُسمى بالروسية "الأقراط"، لأنها تُذكّر بإكسسوارات النساء.
منازل الفلاحين قائمة على البتولا حتى الحقبة السوفييتية
اعتبر الروس القدماء أيضاً أن شجرة البتولا لها ميزات علاجية، فقد شربوا مرقاً مصنوعاً من أوراقها وبراعم زهورها، كما صنعوا أطباقاً من أغصانها، حتى إنهم استخدموها أيضاً لصنع مواد مقطرة منها لتنظيف الجسم قبل وصول الصابون إلى روسيا، ولا تزال تستخدم في مواد التجميل حتى الآن.
أما داخل المنازل فقد أحرق القدماء أغصان البتولا من أجل التدفئة، وصنعوا الأواني وقطع الأثاث منها، كونها كانت ناعمة بما يكفي ليتم نحتها.
بالإضافة إلى كل ذلك، كان الفلاحون الروس يصنعون أحذيتهم من لحاء أشجارها حتى فترة ثلاثينيات القرن الماضي.
عصير شجرة البتولا اللذيذ
في قلوب الروس ركن خاص ينتمي إلى عصير البتولا، إذ يتم استخراجه عن طريق عمل جروح صغيرة في لحاء الأشجار، وبمجرد فتحها يتقطر منها سائل شفّاف ذو مذاق حلو لعدة أسابيع.
وحصل هذا الشراب اللذيذ على شهرة واسعة، لاسيما بعد الحرب العالمية الثانية، عندما عانت البلاد من نقص في السكر، فكان هذا الشراب مصدراً سكرياً للأشخاص الذين عانوا من الجوع لفترة طويلة.
البتولا في الأدب والفلكلور الروسي
يعتبر سيرجي يسينين، المعروف باسم "الشاعر الفلاحي الأول"، واحداً من أشهر الشعراء الروس في القرن العشرين، وقد عرف عنه أنه شاعر حساس تعرض للكثير من التضييق بسبب تدينه، في ظل الثورة البلشفية، وبسبب ذلك قرر مغادرة قريته.
وعندما غادر شعر بحنين قوي إلى حقول البتولا في قريته كونستانتينوفو، الواقعة جنوب موسكو، فقرر أن يكتب درزينة من القصائد الموجهة إليها سمّاها: "وداعاً روسيا أرض البتولا".
وقال في إحداها:
تحت نافذتي، الثلج الأبيض فوق البتولا المُسن
توهجٌ فضي على الأغصان الرقيقة
يذوب فوق زهور البتولا
أبيض مثل الحرائق الذهبية
تشتعل النيران في رقائق الثلج
بينما يقف البتولا نائماً أو مندهشاً
في هذه الأثناء يتجول الفجر الكسول
ويرمي المزيد من "الفضة" على الأغصان.
لم يكن الشاعر الفلاحي يسينين الذي انتحر فيما بعد هو الوحيد الذي تغنّى بالبتولا، بل أيضاً كان هناك العديد من الفنانين الذين رسموا لوحات غير محدودة تظهر المناظر الطبيعية الحزينة، مثل أليكسي سافراسوف وإسحاق ليفيتان.
تحمي من الشياطين
بالطبع، لم يكن يُنظر إلى البتولا على أنها شجرة ذات فائدة فحسب، بل أيضاً على أنها تعويذة تحمي من الشياطين، التي كانت تتسبب في الأخطار.
ووفقاً لموقع Red Moon Mystery School فإنَّ وضع أغصان البتولا على أبواب المنزل والحظائر ستحمي من التعاويذ والشياطين والشتائم.
كما كان يُصنع في الخريف من أغصان البتولا الجافة مكانس للتخلص من الطاقة القديمة، لتعلق على الأبواب حتى تنهار، ليتم صنع واحدة جديدة في الخريف التالي.
البتولا وعلاقتها بطقوس الشامانيّة السيبيرية
في سيبريا، هناك أقلية يعتبرها الباحثون هي معقل الشامانية في العالم، ولهذه الأقلية عادات وتقاليد مميزة، تبرز من بينها العلاقة بينهم وبين أشجار البتولا.
مثلاً تعتمد طقوس دخول الشامانية على شجرة بتولا، يتم نصبها داخل خيمة مرتفعة، بحيث تكون جذورها في الأرض وأغصانها العليا تبرز من فتحة الدخان أعلى الخيمة.
وتدعى الشجرة في تلك الجلسة "حارسة الباب"، لاعتقادهم بأنها تفتح باب السماء للشاماني الجديد.
وفي اليوم المحدد للطقوس، يقوم الشخص المنضم للشامانية بتسلق الشجرة حاملاً بيده سيفاً، ليخرج من فتحة الدخان، ويردد في الأعلى بعض الترنيمات.
بعد ذلك يتجه التلميذ الشاماني الجديد وأستاذه وعدد من الحضور في موكب من أجل التضحية بعنزة عند أشجار البتولا، إذ يكون التلميذ متعري الجسد من الأعلى، فيدهن رأسه وعينيه وأذنيه بدماء العنزة إلى حين قرع الشامانيين القدماء للطبول.
ومن العلاقة المميزة الأخرى بين الشامانيين والبتولا أنّ الفطر الذي ينمو أسفل هذه الأشجار طعاماً مقدساً يمنح الشامانيين إمكانية الوصول إلى عالم الأرواح وفقاً لاعتقادهم.
إضافة إلى أنّ إحدى أساطيرهم تقول إنّ الفطر الذي ينمو أسفل شجرة البتولا هو ثدي الآلهة، الذي يمكن من خلال تناوله الحصول على إكسير الحياة.