عبر زجاج لا يظهر ما خلفه، كان مدير في وكالة الاستخبارات الأمريكية يدعى سيندي غوتليب يجلس ليشاهد كيف تستدرج فتيات الليل زبائنهن لدس مادة مخدرة جديدة هدفها حث الرجال على البوح ما في صدورهم. هذه التجربة "اللاأخلاقية" والتي فضحت الوكالة الاستخبارية بعد عقود تحمل تاريخاً من الصراع مع المعسكر الشيوعي والحرب الباردة التي استخدمت كل الوسائل بما فيها اختراع المخدر المهلوس المسمى بـ LSD.
سنروي في هذا التقرير قصة صناعته وكيفية استخدامه من قبل المخابرات الأمريكية بطريقة غير قانونية على مواطنين وجنود أمريكيين ومواطنين كنديين بلا حسيب أو رقيب.
كل شيء مباح في الحرب
تعود القصة إلى خمسينات القرن الماضي، عندما كان هوس الولايات المتحدة مستعراً لمنافسة الاتحاد السوفييتي في كل مجالات الحياة، حتى في مجال الوصول إلى القمر.
ظنت الولايات المتحدة أن الاتحاد السوفييتي وكوريا الشمالية والصين تستخدم عقاراً لغسل دماغ الأمريكيين الذين تم أسرهم؛ وبناء عليه، لم ترغب في التخلف عن الركب في تطوير هذا النوع من العقاقير.
اسم المشروع الذي تسلم إدارته سيدني MK-Ultra، والذي بدأ تحديداً في عام 1953 بهدف التوصل إلى دواء يمكن استخدامه كـ"إكسير الحقيقة" ووسيلة للسيطرة على الدماغ.
لذلك، وبشكل لا يصدق، قررت أن تدس المخدر سراً إلى الأمريكيين الآمنين على الشاطئ وفي حانات المدينة والمطاعم.
اختبار العقارات على موظفي وكالة المخابرات
وعلى مدى عقد من الزمان، أجرت وكالة المخابرات المركزية اختبارات غير خاضعة للرقابة تماماً خدّرت فيها الأشخاص دون علمهم، ثم تابعتهم وراقبتهم دون تدخل، حسبما كشفت مجلة San Francisco Weekly التي التقت ببعض ضحايا للبرنامج في العام 2012.
تم وقتها استخدام عدد كبير من المخدرات والأدوية، وليس فقط LSD، وغالباً على أشخاص لم يعرفوا طبيعة شربوه للتو أو حتى موافقتهم، حسب ما نشره موقع Big Think.
وظن سيدني غوتليب أن عقار الـ LSD كان الوصفة الحضرية التي لطالما بحث عنها، فطلب من الوكالة شراء المنتج العالمي من الدواء، والذي اخترعته وقتها شركة سويسرية تدعى Sandoz.
كلفت تجربته 240 ألف دولار ثمن الدواء وقتها، وتم استخدام الكمية جميعها على مجموعة متنوعة من الرجال.
ووقتها، أسست وكالة الاستخبارات المركزية شركة واجهة لتمويل أبحاث علمية من قبل جامعات أمريكية مرموقة مثل ستانفورد وMIT لدراسة رد فعل البشر في ظروف إكلينيكية بدون أي تسريب أو لفت انتباه لاهتمام المخابرات بهذا العقار أو الدواء المخدر على الإطلاق.
وبالتوازي مع هذه الأبحاث، كانت المخابرات تستخدم العقار على بعض المساجين لمدة شهور، كما خدرت الوكالة المركزية عدداً من موظفيها لتراقب ردة فعل رجال الاستخبارات الهامين في حال تم حقنهم من قبل أنظمة معادية بطريقة مشابهة، ما تسبب بحالة وفاة.
عملية ذروة منتصف الليل
وكلما تبحرت الوكالة في تجاربها، تورطت في ممارسات غير أخلاقية وغير قانونية إلى أن تم وضع حد للبرنامج المريب، ولعل أكثرها غرابة الغرفة الحمراء التي أدارها سيدني بمساعدة فتيات عملن في تجارة الجنس.
وظف سيدني وقتها نساء عملن في الدعارة في مدينة نيويورك، كانت مهمتهن استدراج الرجال إلى منزل آمن، حيث سيتم دس العقار المخدر دون معرفته الزبائن الغافلين في المشروبات.
وبعد انتهاء اللقاء الحميم، طلب سيدني من النساء أن يبدأن بطرح أسئلة على الزبائن لمراقبة المدى الذي يمكن أن يفصح به الإنسان بعد تناول هذه المادة المهلوسة.
كانت العملية كلها تتم خلف زجاج لا يعكس ما خلفه، وعلى مرأى وتسجيل من سيدني ومساعديه.
وكشفت تقرير لاحق، أن سيدني حوّل المهمة الجاسوسية إلى ما يشبه غرفة ميول منحرفة، إذ كان يحضّر المشروبات الكحولية ويراقب مع مساعديه تغير الحالة الذهنية للضحية دون أن يكون لديه أو لأي من مساعديه خلفية علمية أو طبية ذات علاقة.
ما هو عقار LSD المهلوس؟
وعقار LSD المهلوس أو ما يسمى علمياً "ثنائي إيثيل أميد حمض الليسرجيك" (LSD) هو دواء مخدر يتضمن مواد تؤثر على الأفكار والعواطف والإدراك الحسي.
عند تناول جرعات عالية بما فيه الكفاية، تظهر الهلوسة البصرية والسمعية في المقام الأول، كما تتسع حدقة العين ويرتفع ضغط الدم ودرجة حرارة الجسم.
ونظراً لأن عقار LSD المهلوس يرتبط بمستقبلات الدوبامين بالإضافة إلى مستقبلات السيروتونين، فإن من تأثيراته زيادة النشاط والحيوية مقارنة بالمخدرات الأخرى.
تبدأ التأثيرات عادةً في غضون نصف ساعة ويمكن أن تستمر لمدة تصل إلى 20 ساعة.
10 أعوام من التجارب السرية
استمرت التجارب حتى عام 1964، وبعدها بعقود تم التحقيق في استخدام العقار في الاستجوابات في مخابئ في أوروبا وشرق آسيا، حيث تم حقن أصول المخابرات الأجنبية المشتبه بها بجرعات كبيرة من عقار LSD قبل الاستجواب لإحداث صدمة نفسية "بمستويات لا يمكن إلا أن تسمى التعذيب"، بحسب ما كشفت مجلة New Yorker.
ولم ينحصر الأمر بوكالة الاستخبارات الأمريكية فقط، إذ كان الجيش الأمريكي يعمل على مشروع مشابه اسمه Edgewood Arsenal.
استخدم وقتها الجيش العديد من الأدوية، بما في ذلك عقار LSD المهلوس، كسلاح من نوع آخر لجمع المعلومات.
وكما هو الحال مع وكالة المخابرات المركزية، قام ضباط الجيش بتخدير الجنود بشكل عشوائي لمراقبة ردود أفعالهم، كما تم وضع الخطط لاستخدام المخدرات على قوات الفيتكونغ جنوبي فيتنام أثناء جلسات الاستجواب.
وكان من مخططات الوكالة تخدير قادة عالميين معادين للنظام الأمريكي، بحيث يتم حقنهم قبل إلقاء خطاب رسمي أو إتمام اجتماعات هامة كي يصدر عنهم مواقف وقرارات تتسبب في تدهور قاعدتهم الشعبية.
ومن المخططات الأخرى كان رش مقر محطة الراديو التي يلقي الزعيم الكوبي السابق فيدل كاسترو منها خطابه الدوري، لكن هذه المخططات لم يتم تنفيذها نظراً إلى إيقاف البرنامج لاحقاً بعدما كُشف أمره.
لكن الوكالة اختتمت بعد كل هذه الدراسات أن ردات فعل العقار المهلوس لا يمكن التنبؤ بها، وبأنه لم يكن العقار الذي تبحث عنه في رحلة السيطرة على الدماغ، لكنها أصرت في تقاريرها لاحقاً على إمكانية استخدامه في المهام التجسسية.
غلطة من مدير البرنامج تكشف بعض الأسرار
اعتبر غوتليب المشروع فاشلاً وخلص إلى أنه لا يمكن الجمع بين الأدوية أو التدخلات النفسية لتحقيق أهداف البرنامج.
وبعدما تخلى عن البرنامج، توجه للعمل في مشاريع أخرى للوكالة قبل أن يتقاعد في عام 1973 بعد أن دمر معظم السجلات المتعلقة بالبرنامج.
لكن غوتليب في خضم محو آثار هذا البرنامج، نسي أن يحرق السجلات المالية، وفي منتصف السبعينات، قامت لجنة الكنيسة بمجلس الشيوخ الأمريكي بالتحقيق في البرنامج، على الرغم من أن نقص البيانات يعني أن عدداً قليلاً جداً من الأشخاص الذين تم تخديرهم دون موافقتهم تم تعويضهم، إلا أن ما بقي سراً سواء لطبيعة استخدامه وعدد ضحاياه لا يزال جله مجهولاً حتى الآن.
وبينما تبدو القصة للوهلة الأولى وكأنها سيناريو لفيلم هوليوودي على غرار فيلم Conspiracy Theory لميل جيبسون، تم اتهام الكثير ممن أشاروا للبرنامج بدايةً بأنهم مصابون بجنون الارتياب، لكن غلطة مدير البرنامج، كشفت مدى استعداد المخابرات الأمريكية إلى تدبير وتمويل تجارب بشرية سرية، قد لا يعرف عنها البشر أبداً.