في منتصف التسعينيات تقريباً ألقيتُ محاضرة في أحد المراكز الأجنبية بمنطقة الزمالك بالقاهرة، حول "الترجمات العربية للكتاب المقدس -أي التوراة والإنجيل- وأثرها في الثقافة العربية". وأثناء المحاضرة فوجئت بوجود عدد كبير من الرهبان والراهبات! وكان بينهم بالمناسبة الراهب الإيطالي جوزيف سكاتولين المتخصص في الشاعر الصوفي ابن الفارض، والذي تعرفت عليه في تلك الليلة.
وبعد اللقاء الذي طال، بسبب الأسئلة، انفرد بي أحد الحضور وعرفت أنه راهب إيطالي أيضاً، وقال لي بعربية مبهرة ودون أي خطأ أو لكنة إنه يدير إحدى المدارس، هنا في الزمالك، تعلِّم العربية لغير الناطقين بها، ويسعدهم أن أنضم إليهم كمدرس إن كنت أرغب في ذلك. فلا ريب أنه عرف بطريقٍ ما أنني أدرس العربية للأجانب أيضاً.
ووجدت أنهم يدفعون مبلغاً محترماً كمرتب إلى جانب أن التدريس هناك سيكون تجربة جديدة ومفيدة بالنسبة لي. ولذا ذهبت في اليوم التالي لزيارة في شارع شجرة الدر، ووافقت بعد أن رأيت المكان والطلاب والمناهج. وهناك تعرفت على مجموعة من أفضل مدرسي العربية الذين عرفتهم في حياتي، وقد أحكي عنهم بالتفصيل في فرصة أخرى.
وفقط بعد أن بدأت التدريس هناك عرفت أن المدرسة تتبع معهد الفاتيكان في روما وإن بشكل غير مباشر، وأنها تعد الرهبان الكاثوليك الذين سيعملون في الكنائس الكاثوليكية في مصر والعالم العربي. وبالتالي لا تقبل أي طلبة من خارج السلك الكهنوتي الخاص بهم.
واكتشفت سريعاً أيضاً أن المدرسة تعد مقصداً للأقباط المسيحيين الذين تحولوا إلى الكاثوليكية أو في طريقهم إلى ذلك. وكان العمال المصريون في المدرسة ممن تحولوا بالفعل.
وقد عملت هناك لمدة سنتين كانتا فتحاً فيما يخص التعرف على المجتمع المسيحي المصري عن قرب ومن منظور جديد. ومع هذه المدرسة زرت الكثير من الأديرة المسيحية في صحراوات مصر وجبالها. وكان لسان حالي دوماً أن كل هذا في مصر وأنا لا أعرف؟! والحقيقة لم يكن لي أن أزور كل هذا بمفردي. زد على ذلك أنني ما كان لي من وسيلة كي أتعرف على التنوع المسيحي المصري بهذا الشكل القريب. وآنذاك تعرفت للمرة الأولى على لمحات عدة مما يسمى التطرف القبطي المسيحي! وهو أمر موجود بالفعل وإن كان نادراً.
وأذكر على سبيل المثال أننا كنا والطلاب مرة في رحلة لزيارة أحد الأديرة القبطية التي تقع داخل مغارة ضخمة في أعلى جبل شاهق في الصحراء الشرقية. وعندما اجتزنا العمار ودخلنا في الصحراء خفت الضجة في الباص، ولما طال الطريق نمت. وكان أحد طلبتي راهباً أمريكياً ورساماً محترفاً فرسمني وأنا نائم وأحلم بصدر باميلا أندرسون واستيقظت على ضجة الطلبة – الرهبان وضحكاتهم، وبعد أن رأيت الصورة قلت له: "بل هذا حلمك أنت أما أنا فأحلم فقط بأورنيلا موتي". وعندها أحدث الطلاب الطلاينة ضجة كبرى.
وبعد أن هدأت الضجة وعاد كل إلى مكانه انتبهت لحديث غريب يدور في الكرسيين اللذين أمامي مباشرة بين أربعة من الأقباط كنت أراهم معنا للمرة الأولى. كان الشخص الذي أمامي مباشرة والذي لا أرى إلا ظهره وقفاه يتكلم بحماس والثلاثة الآخرون ينصتون إليه باهتمام بالغ. وكان يقول لهم (بالعربية) ما معناه: أن هؤلاء المسلمين الذين يعيشون بيننا ليسوا بمصريين، بل عرب محتلون ومغتصبون ولابد أن نطردهم في يوم ما مثلما فعل الإسبان قديماً ومثلما يفعل الإسرائيليون الآن!
وأظن أن هذه الفكرة صدمتني آنذاك، لأنني أعرف أن أغلب المصريين المسلمين الذين يتحدثون العربية هم مصريون أقباط أسلموا، لأن العرب عندما جاؤوا إلى مصر كانوا في البداية جيشاً محارباً، وعندما هاجرت القبائل العربية إلى مصر ظلوا يعيشون في الأطراف الصحراوية حياة قبلية شبه منفصلة عن المصريين، بل كانوا يحتقرون المصريين ويرونهم مجرد فلاحين شبه مستعبدين أما هم فعرب فرسان. ولذا لم يحدث اختلاط كبير ولا تزاوج كثير بين العنصرين، وظل الأقباط النصارى أغلبية حتى القرن الثالث الهجري، ولذا فنحن كمسلمين فلاحين على الأرجح مصريون أصلاء، بل أكثر أصالة من كثير ممن ينتسبون إلى الأقباط المسيحيين بينما يبدون كيونان ورومان متمصرين!
ويبدو أن فزعي نبههم لوجودي فالتفت هذا المتحدث إليّ وقال: "مش صح كده يا أستاذ؟". فتمهلت قليلاً ثم ضحكت وقلت له: "على الأقل كان لازم تعرفني قبل أن تسألني هذا السؤال؛ فأنا مسلم ولست مسيحياً". وكنت أقصد بالفعل أن أتسبب له ولهم بهذه الصدمة "المرتدة" التي بدت عليهم. وربما ظنوني من جهاز أمن الدولة المخيف!
ولا أدري ماذا كان سيحدث لولا أن السائق أخبرنا بوجود عطل صغير في الباص، وأننا لا بد أن نتوقف قليلاً حتى يصلحه. وتوقفنا بالفعل ونزلنا من الباص وجلسنا في ظله فأكلنا وشربنا وتحدثنا بالطبع. وأذكر أنني تحدثت طويلاً مع أحد طلابي الأفارقة من أنجولا، وكان فكاهيّ المجموعة الأول، ولذا كان يميل بشكل غريب لتعلم النكات المصرية ثم إعادتها في السياقات المناسبة بالضبط وهذا يتطلب ذكاء وموهبة كبيرة ولا ريب.
ومما يدل على ذكائه إجاباته الذكية التي كانت تبهرني دوماً، كان على سبيل المثال من أسرع الطلاب تعلماً للعربية الفصحى، وكان شديد الإعجاب بها ويحسدنا عليها. وعندما سألته عن السبب، قال في تعليل ذلك: إنها تصون وحدتكم الثقافية، وتحميكم من أن تذوبوا في الثقافة الغربية المسيحية مثلما حدث لنا في إفريقيا السوداء. وعندما تعجبت من أن يقول هذا وهو راهب مسيحي قال مؤكداً كلامه: انظر لحالي أنا. جدي كان وثنياً حسب تصنيفهم، ثم تنصَّر أبي في إحدى المجاعات، وكانت الكنيسة لا تطعم إلا مَن يتنصر، والآن أنا راهب كاثوليكي أنصّر الناس، فأي ذوبان أكثر من هذا؟!
وأذكر أنني سألته آنذاك أيضاً: لماذا نشعر كمصريين، خاصة في مباريات كرة القدم، وكأن الأفارقة يكرهون مصر والمصريين؟ فقال: إن الأفارقة يشعرون بأن مصر مثل مدرس قاسٍ يُمسك العصا للجميع ويلسوعهم بها دون سبب مقنع، لذا فإن الأفارقة سيثورون على مصر قريباً جداً. والآن أذكر أن هذا الحوار كان بالضبط في منتصف سنة 1993.
وعندما أعلن السائق إصلاح العطب ركبنا مرة أخرى ففوجئت أن الكرسي أمامي أصبح شاغراً، فبحثت عن الأخ القبطي "المتطرف" الذي يريد طرد المصريين "المسلمين" من مصر فلم أجده في الباص كله ولا من كان بجانبه. وخشيت أن أسأل عنه فيظن الآخران أنني أترصده، ولكنني نظرت من الشبابيك في الاتجاهات المختلفة عسى أن أتخايل به أو بأي دير قريب فلم أرَ شيئاً. فتيقنت أنه خاف منِّي وهرب إلى حيث لا أدري.
ومنذ ذلك الوقت كلما سمعت بظلم ما يقع على "المسيحيين من الأقباط" أتذكر هذا الأخ المسيحي "المتطرف" فأخاف وأقول لنفسي إن غباء "المسلمين من الأقباط" سيدفع "المسيحيين من الأقباط" إلى حضن هذه الدعاية المتطرفة، وبالتأكيد ستكون العواقب وخيمة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.