“كل شيء هادئ على الجبهة الغربية”.. عن معارك الجنود النفسية في أهوال الحرب

عربي بوست
تم النشر: 2021/07/28 الساعة 12:55 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/07/28 الساعة 13:03 بتوقيت غرينتش
جندي حرب/ Istock

– هل كان يمكن ألا تقوم الحرب لو أن الإمبراطور قال لا؟ ولو أن حوالي عشرين أو ثلاثين رجلاً من حول العالم غير الإمبراطور قد قالوا لا، فهل كانت الحرب ستقوم بالرغم من كل هذا؟

يبدو الموضوع غريباً لو تفكّر المرء فيه قليلاً، ألسنا ندافع عن وطننا والأعداء في الجانب الآخر يدافعون عن وطنهم، فمن منا إذن على حق، لماذا نظن أن الحق في جانبنا؟

كيف يمكن لجبل في ألمانيا مثلاً أن يهجم على جبل في فرنسا، إنها كلها اعتداءات للناس على بعضهم البعض، فلا علاقة لي بذلك، فلم أشعر باعتداء أحدهم عليّ، ولا حاجة لي للوجود في تلك الحرب اللعينة؟

سأل الكاتب الإنجليزي إيريك ماريا ريمارك ذلك السؤال على لسان بطل رواية كل شيء هادئ على الجبهة الغربية، في اتهام مباشر وصريح أن زعماء ورؤساء الدول هم المسؤول الأول والأخير عن اندلاع الحروب، التي لا يوجد من خلفها سوى الخراب والدمار والقتل.

تدور أحداث الرواية خلال الحرب العالمية الأولى، في بدايات القرن التاسع عشر، ولكن لم يتعرض الكاتب لأي من أسباب اندلاع الحرب، ولكنه بدلاً من ذلك دخل إلى نفوس الجنود في صفوف الجيش عند الجبهة الغربية، لينقل لنا حالة الشباب المساكين الذين تم الزج بهم في صراع دموي يحصد أرواحهم دون اكتراث، بداية من معسكر التدريب ثم الوصول للجبهة أمام الأعداء، وأخيراً إلى المستشفى، أو متناثرةً أشلاؤهم على خط الجبهة.

تلاميذ في صف دراسي واحد لم يتعد عمر أي منهم الثمانية عشر عاماً، ولكل منهم أحلامه الخاصة ورؤيته المستقبلية وأمل في غد مشرق، تم استدعاؤهم للانضمام للجيش من أجل حرب لا يعلمون عنها شيئاً. فبدلاً من تعليمهم وتثقيفهم من أجل إعداد جيل قوي يحمل وطنه لوضع أفضل تم رميهم لمواجهة جيش آخر مكون من تلاميذ في نفس عمرهم، يحملون أحلاماً وآمالاً متشابهة في مستقبل جميل.

وبدلاً من التعلم بالمدرسة تعلموا في معسكرات التدريب والإعداد أن كون أزرار زيهم لامعة لهو أهم من أربعة مجلدات فلسفة، وأن الأهمية الحقيقية ليست في الاهتمام بالعقل، بل في طلاء الحذاء، وأن الذكاء بحد ذاته غير مهم، ولكن النظام هو المهم، وأخيراً أن الحرية لا يعول عليها وإنما التدريب العسكري هو الأساس.

قد يشعر الجندي بالدهشة في البداية من تغيير كل تلك المعتقدات والأفكار، ولكنه في النهاية يصاب بالتبلد والاستسلام للواقع المرير؛ أنه مجرد رقم وسط عدد كبير، كل ما يشغل تفكيره هو كيفية البقاء على قيد الحياة في ظل تلك الظروف العصيبة.

لم يتعلموا كيفية التعامل مع خوفهم أو يتشجعوا للاعتراف بعدم رغبتهم في الانضمام لصفوف الجيش؛ خوفا من أن يتم وصمهم بالجبن، لم يتعلموا كيفية مواجهة كل تلك المخاطر نفسياً، والتعامل بذكاء مع غريزة البقاء على الحياة، فكل ما كان يشغل بالهم أنه من الواجب عليهم أن يُطَمئِنوا أمهاتهم وآباءهم دوماً أن كل شيء هادئ على الضفة، وأنهم لا يواجهون أية مخاطر، حيث يتوفر لهم المأكل والمشرب والمكان المناسب للنوم، كما أن النصر قادم لا محالة.

دمار!

ألغام!

قنابل يدوية!

دبابات!

مدافع الماكينات!

كلها مجرد كلمات تمر أمام عيني القارئ بخفة، ولكن في نظر الجنود تنطوي على أشنع المصاعب وأكثرها إثارة للفزع. عندما تتغطى الوجوه بالأوحال والطين وتتشرد الأفكار كالجياد المذعورة في كل صوب، وتخور قواهم وتتحطم أعصابهم وتلتهب أعينهم وتدمى ركبهم وتصعق العقول لا يمكن لأحد أن يفكر بهدوء، بل يتحول من كائن حالم وديع إلى ماكينة للقتل، لا يفكر سوى في الدفاع المستميت عن نفسه وحماية روحه من الوفاة وحماية جسده من التمزق.

وبالرغم من كل محاولات البقاء على الحياة كانت دائماً تنتهي حيواتهم كجثث منقولة إلى المستشفى العام، حيث لا يوجد به سرير أو دواء كافٍ لكل ذلك العدد المهول من الجرحى، الذين سرعان ما يصبحون موتى، ثم أضاف الكاتب إريك ريمارك أن العادة هي التفسير المقنع لكيفية نسيان الجنود لتلك الحوادث التي تدور من حولهم بتلك السرعة، من أجل استمرار عمليات الهجوم والدفاع، ولا تلبث ذكريات ساعات الجبهة العصيبة أن تهبط فتستتر في زوايا عقولهم وقد تناسوها مؤقتاً؛ فلا بد للمرء من أن يطرح تلك الذكريات جانباً من ذاكرته، حتى ولو بشكل مؤقت، لأن الجندي إن لم يتمكن من فعل هذا وترك كل تلك الذكريات تنتصر، لَجُنّ، فمن يصيبه الحظ ويخرج سليماً من الحرب إنما خرج سليماً بجسده فقط، ولكن أهوال الحرب مختبئة في أعماق ذاكرته، لا ينساها فيعود جندي الحرب لبيته وقريته وعمله، ولكنه لا يعود أبداً كما كان قبل الزج به في تلك الحروب اللعينة.

"ربما كانت أهوال حرب مختبئة في أعماق ذاكرتنا حينما نبتعد عن الجبهة لكننا لا ننساها! الحقيقة التي أنا واثق بها هي أن تلكم الذكريات المروعة التي اختبأت في طيات نفوسنا وظننا أنها قد خمدت، لن تلبث أن تشعل نيرانها ثانية وتستيقظ في أذهاننا بمجرد أن تنتهي الحرب، وهنا ينبعث الماضي من أكفانه، وتمر الأيام التي تتجمع في صورة أسابيع فشهور ليصنعوا أعواماً هي ما قضيناها في الحرب، ولن يلبث رفاقنا الموتى أن ينهضوا من مراقدهم، فيسيرون معنا جنباً إلى جنب، فتصفو أذهاننا وتتحدد أهدافنا، فنزحف وإلى جانبنا رفاقنا الأموات، وخلفنا أعوام الحرب المروعة، لكن ضد من سيكون هذا الزحف؟ إلى من سيكون موجهاً؟".

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

ندى ضياء
مدونة ومُعلمة للأدب الإنجليزي
تحميل المزيد