هناك من يحصر الظاهرة الإسلامية في الحركات الإسلامية وعملها في المجتمعات، ولكن الظاهرة الإسلامية واسعة باتساع الشرائح والفصائل المكونة لها، بمعنى أن هناك مداً شعبياً متديناً واسعاً في الأمة يبحث الحلال والحرام فيما يكسب ويعمل ويمارس، وهذا القطاع يعد من أكبر شرائح الظاهرة الإسلامية المعاصرة. وهناك شريحة العمل الخيري والتطوعي، إضافة إلى شريحة المؤسسات العلمية والثقافية الإسلامية، وشريحة الحركات الإسلامية، هذه الشريحة التي كثيراً ما حصل جدال حول تسميتها وجذورها وتأثير عملها وأفكارها في المجتمعات العربية.
جدلية المصطلح:
شاع لدى الباحثين في الحركة الإسلامية استعمال مصطلح الإسلام السياسي، الذي يشير إلى الحركات الإسلامية التي تتخذ من الشريعة الإسلامية منهجاً لها في الحياة، مستخدمة بذلك منهج العمل السياسي الحديث الذي يقوم على المشاركة السياسية في السلطة. وبالتالي فإن القصد من كلمة السياسي ليس وصفاً للإسلام بقدر ما هو وصف للحركات الإسلامية التي تقبل مبدأ المشاركة في العمل السياسي من خلال تقبل التعددية الحزبية وخوض الانتخابات والاحتكام إلى صناديق الاقتراع.
ورغم شيوع استخدام مصطلح الإسلام السياسي، فإن العديد من المفكرين والمهتمين بالأمور السياسية رفضوا استخدام هذا المصطلح، مؤكدين عدم الفصل بين الإسلام السياسي والإسلام ككل. وهذا ما أكده حسن البنا عام 1938 بقوله "ليس هناك شيء اسمه دين وشيء اسمه سياسة، وهي بدعة أوروبية". وقد تحدث الدكتور محمد عمارة في كتابه "الإسلام السياسي من منظور إسلامي" عن ذلك بقوله "إنني لا أستريح كثيراً لمصطلح الإسلام السياسي رغم شيوع هذا المصطلح، وصدور الكثير من الكتابات حول هذا الموضوع، وتحت هذا العنوان". ويضيف: "في الإسلام السياسي شبهة اختزال الإسلام في السياسة، لأنه ليس هناك إسلام بدون سياسة".
وفي نفس السياق يرى المحلل الأمريكي في شؤون الإسلام روبرت سبنسر أنه لا فرق بين الإسلام والإسلام السياسي، وأنه من غير المنطقي الفصل بينهما، فالإسلام بنظره يحمل في مبادئه أهدافاً سياسية. ويقول: "إن الإسلام ليس مجرد دين للمسلمين، وإنما هو طريقة وأسلوب للحياة، وفيه تعليمات وأوامر من أبسط الأفعال كالأكل والشرب إلى الأمور الروحية الأكثر تعقيداً".
من ذلك نرى رفض الكثير من المهتمين لمصطلح الإسلام السياسي، إلا أن هذا المصطلح شاع استخدامه في الأوساط الداخلية والدولية لوصف الحركات الإسلامية التي تسعى للوصول إلى السلطة وإقامة دولة دينية.
الموقف من الحركة الإسلامية
تباينت المواقف والآراء حول الحركة الإسلامية، ورغم اختلاف وجهات النظر بين المحللين السياسيين والمهتمين بهذه الحركات الإسلامية، فإن أغلبها رفضت وصول هؤلاء إلى السلطة. فقد لعبت فكرة "تطبيق الشريعة الإسلامية" بحذافيرها في السياسة هاجساً للتيارات الليبرالية والحركات العلمانية، فهي تريد بناء دولة علمانية محايدة دينياً، وأن تكون مسألة اتباع الشريعة الإسلامية أو غيرها من الشرائع شأناً خاصاً بكل فرد في المجتمع لا تتدخل فيه الدولة، ويَتهم هؤلاء الحركات الإسلامية بأنها تحاول بطريقة أو بأخرى الوصول إلى السلطة والاستفراد بها، وبناء دولة دينية ثيوقراطية وتطبيق رؤيتها للشريعة الإسلامية.
ويرى بعض المحللين والكتاب أن الإسلام السياسي وإقامة دولة دينية يشكلان فساداً ورجعية للدول وانتهاكات لحقوق الإنسان وسلب خيرات الدول، أما نظرة الغربيين للإسلام السياسي فإنها كانت ممزوجة ما بين الرفض بإقامة دولة دينية في الدول العربية وبين الخوف من عودة الدولة الإسلامية القوية المنافسة بقيمها وحضارتها للقيم والحضارة الغربية.
والسبب في ذلك أن الغرب يحمل الحركات الإسلامية والمسلمين عموماً مسؤولية عدم الاستقرار والاضطرابات التي استمرت رغم انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الخطر الشيوعي. ويرى العديد من المفكرين أن العدو القادم بعد انتهاء الحرب الباردة هو الإسلام الذي يشكل خطراً على الحضارة والقيم الغربية، من وجهة نظرهم، وهذا ما أكده فرانسيس فوكاياما الكاتب الأمريكي من أصول يابانية في كتابه "نهاية التاريخ". كما طرح نفس الفكرة الكاتب صموئيل هنتنغتون في كتابه "صراع الحضارات"، حيث أكد الكاتبان أن انتهاء الحرب الباردة لا يعني انتهاء الخطر الذي يواجه الغرب، بل إن هناك خطراً آخر غير الشيوعي تواجهه الحضارة الغربية.
بعض الحقائق المغيبة
عند الحديث عن التجربة السياسية التي عاشتها بعض البلدان العربية بوصول أحزاب إسلامية إلى السلطة، تجدر الإشارة إلى بعض الحقائق التي غالباً ما تم التعتيم أو القفز عليها، ولاسيما في الخطاب والتحليل الإعلامي المتسرع وأهمها:
أ/ تجذر الحركة الإسلامية: دأبت التحاليل العديدة على البحث في أسباب ضعف التيارات السياسية غير الإسلامية، مقارنة بما تميزت به الحركات الإسلامية من بروز سريع وواسع ضمن فعاليات الانتفاضات الشعبية والمواعيد الانتخابية في تونس ومصر واليمن والمغرب والكويت… إلخ.
والواقع أن مثل هذه المواقف والآراء ترجع إلى ضعف الاطلاع والمعرفة بطبيعة المجتمعات العربية. فقد كانت الحركات الإسلامية نشيطة مند عقود، ومرتبطة بقوة بالأوساط الشعبية. وفي الوقت الذي تعرضت الأحزاب الأخرى على امتداد سنوات طويلة إلى التوظيف أو الاختراق من طرف النظم القائمة، حافظت الأحزاب الإسلامية عموماً على مسافات معينة أكسبتها قدراً من المصداقية الشعبية. والأحسن من ذلك، وبحكم التجربة والممارسات الطويلة للعمل السياسي والاحتكاك الميداني المباشر، عملت هذه التنظيمات طوال عقود على إعادة تشكيل وصياغة رؤى وثقافة شرائح واسعة امتدت إلى مختلف مستويات المجتمع، وجاءت الانتخابات فرصة تاريخية لإبراز نتائج هذا العمل الخيري-النضالي في أعماق المجتمع.
والأهم من ذلك أنها تتميز عن بقية التنظيمات السياسية بنشاطها في مجتمعات مسلمة ما زالت تحافظ على درجة عالية من التدين. وأمام مختلف أشكال القهر والإحباط الذي تعانيه هذه المجتمعات بسبب الاستبداد والتدهور المريع والمستمر لظروف العيش ومؤشرات التنمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، أصبح الخطاب الديني واعداً جداً لشرائح واسعة من الشعب في أغلب البلدان العربية.
ب/ تنوع الحركة الإسلامية: إن الحديث عن هذه الحركات بصيغة المفرد يذهب بالنقاش والتحليل في اتجاه خاطئ، ذلك لأن هذه الحركات ليست موحدة، بل تضم تيارات وتوجهات عديدة وذات طروحات متباعدة أحياناً. وهذا ما يجعل منها ساحة مفتوحة للصراعات وأشكال التنافس السياسي التي قد تصل في بعض الحالات إلى الصدام.
ج/ تحرر المجال السياسي وبروز الحركات الإسلامية: لم تكن الحركات الإسلامية هي المبادرة أو القائدة لخروج الشعوب العربية إلى الشارع، لكن الربيع العربي الذي فتح المجال واسعاً أمام كل التيارات السياسية كان بمثابة الفرصة التاريخية لخروج هذه التنظيمات الإسلامية واندفاعها بقوة ضمن الديناميات التي فجرها هذا الربيع. وبفضل ما تتسم به هذه الحركات من خبرة في ميدان النشاط الاحتجاجي والانضباط النضالي والقدرة على التجنيد، استطاعت أن تؤطر فضاءات سياسية ومجتمعية واسعة وبسرعة.
هـ/ أهمية الانتخابات الشفافة: لقد شكلت النتائج الانتخابية صدمة كبيرة للعديد من المحللين والمتابعين للشأن السياسي في البلدان العربية، ولاسيما في بلدان معينة مثل تونس والمغرب. والواقع أن هذه الانتخابات، التي جرت لأول مرة في جو نزيه وشفاف، عكست الواقع الانتخابي والمجتمعي الذي تم تغييبه من طرف النظم القمعية العربية بواسطة الممارسات الانتخابية الصورية التي دأبت عليها منذ قيامها، وبمباركة النخب الحاكمة في العالم الحر التي فضلت دعم مصالحها مع الحكام، وضحّت بالعديد من قوى المعارضة سواء العلمانية أو الإسلامية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.