كانت مدينة قرطبة هي عاصمة دولة المسلمين في الأندلس. وعلى الرغم من كونها العاصمة التاريخية فإنّها سقطت قبل سقوط الأندلس كاملةً بحوالي قرنين ونصف.
حكمت الأندلس عدّة دول مسلمة، فمن الأمويين، وصولاً إلى فترة ملك الطوائف التي انفصل فيها كلّ والٍ بمدينته وأصبح ملكها، ثمّ المرابطين الذين حافظوا على دولة الإسلام في الأندلس، ثمّ الموحّدين الذين كان سقوطهم سبباً في تصدُّع الأندلس نهائياً.
بعد تصدع دولة الموحدين في الأندلس، انتشرت الثورات عليهم في شتى أرجاء الأندلس، وكان ذلك بالأساس نتيجةً لتخاذل حكام الموحدين فى الدفاع عن الأندلس ضد هجمات الأعداء المسيحيين في مملكة قشتالة.
كانت أغلب هذه الثورات عبارةً عن حركاتٍ وتمرداتٍ متناثرة متنافسة ومتخاصمة مع أن هدفها كان مشتركاً وهو القضاء على حكم الموحدين في الأندلس وحمايتها من عدوان القشتاليين وغيرهم من مملكة أراجون ومملكة ليون.
وكان أبرز من ظهر من زعماء الأندلس قائدٌ يدعى محمد بن هود الجذامي. وهو من نسل بني هود ملوك إمارة سرقسطة أيام عهد ملوك الطوائف، حيث ظهر ابن هود في مدينة مرسية شرق الأندلس.
شنّ ابن هود غاراتٍ على أراضي القشتاليين المجاورة ممَّا وطد مكانته في شرق الأندلس، وبدأ كثيرٌ من الفرسان والجند بالانضمام إليه. بالإضافة إلى صعود شعبيته لدى الكثيرين من أهل الأندلس.
حينما شعر ابن هود أنَّه جمع قوة لا يستهان بها، زحف إلى مدينة بلنسية عام 1228، ليٌلحِقَ الهزيمة بوالي الموحدين، ثمّ أعلن انضواءه تحت الخلافة العباسية ومركزها في المشرق، في بغداد.
وفي العام التالي اجتمع أهل إشبيلية وأعلنوا خلع طاعة الدولة الموحدية والاعتراف بطاعة ابن هود تحت ظلال الخلافة العباسية، وكذلك فعلت مُدن ماردة وبطليوس، وانتشرت دعوة ابن هود في الأندلس كلها. فقد كان الأندلسيون متشوقين لقائدٍ يدفع عنهم خطر الممالك المسيحية المعادية.
وعلى الجانب الآخر، كان ملوك المسيحيين في الأندلس يترقَّبون للانقضاض على أشلاء الدولة الموحدية. وكان ملوك إسبانيا ثلاثة، هم: فرناندو الثالث ملك قشتالة، وخايمي ملك أراجون، وألفونسو التاسع ملك ليون.
صراعٌ بين ابن هود وابن الأحمر ومعركة بينهما
شعر ابن هود بعد انهيار الحكم الموحدي وبعدما اعترفت بطاعته معظم مدن الأندلس، أنه أصبح زعيم الأندلس الحقيقي، والمسؤول عن حمايتها ضد الملوك المسيحيين الثلاثة، فسار لإنقاذ مدينة ماردة حينما داهمها ألفونسو التاسع ملك ليون عام 1232، لكنه هُزِمَ أمامهم وسقطت ماردة.
في ذلك الوقت رأى ابن هود أن يعقد هدنةً مع القشتاليين لكي يتفرَّغَ للقضاء على خصومه ومنافسيه، حيث كان في شرق الأندلس منافسٌ آخرٌ شرس، هو محمد بن خميس النصري المعروف بابن الأحمر المستقر في بلنسية.
لم تضايق هذه المنافسة ابن هود في بدايتها، فهي تهدد زعامته حيث خضع لابن هود معظم قواعد الأندلس، كما سيطر كذلك على قلوب الناس بسبب دفاعه عن مدن الأندلس ومحاربة ملوك النصارى.
كان ابن الأحمر قد ظهر أيضاً بعد انهيار دولة الموحدين، وكان يُوصف بالشجاعة والإقدام والعزم، فبُويِع في أرجونة – موطن أسرته – وفي الجهات المجاورة لها في عام 1232، وفي العام التالي دخل مدينة جيّان، وبويع فيها، ثم بسطة ووادي آش، فزاد سلطانه في أنحاء الأندلس الوسطى والجنوبية.
شعر ابن هود بزيادة خطر ابن الأحمر عليه. على الجهة الأخرى دعا ابن الأحمر للخليفة العباسي أيضاً، كما عقد حلفاً مع أحمد بن محمد الباجي حاكم إشبيلية، ولتوطيد التحالف تصاهرا، واتفق الاثنان على مقاومة ابن هود، الذي أصبحت شعبيته هي الأكبر ونفوذه هو الأقوى.
تأهَّب الفريقان للحرب والتقيا على مقربة من إشبيلية، وكان النصر فيها حليف ابن الأحمر وحليفه الباجي، إلا أنَّ أهل إشبيلية ثاروا عليهم وأخرجوهم من المدينة، وفي المقابل دعوا ابن هود لمبايعتهم، ووقع في مدينة قرطبة (العاصمة التاريخية للأندلس) مثلما وقع في إشبيلية، وفقاً لما ذكره ابن عذارى في كتابه (البيان المغرب).
عقب ذلك، أدرك كلا الزعيمين (ابن هود وابن الأحمر) خطر الحرب الأهلية التي يخوضها كل منهما ضد الآخر، كما أدركا أن المستفيد الوحيد من هذه الحروب هو ملك قشتالة المتربص بهما معاً، فعقدا الصلح بينهما عام 1234، وكانت بنود المعاهدة تقتضي أن يعترف ابن الأحمر بطاعة ابن هود، على أن يقرّ ابن هود ابن الأحمر في مناطق جيّان وأرجونة وبركونة وأحوازها.
وفي عام 1235، علم ابن هود بتوجه فرناندو الثالث ملك قشتالة نحوه لقتاله، إلا أن فرناندو عدل عن خطته واتجه نحو جيان التي يسيطر عليها ابن الأحمر، وأخذ يهاجم أحواز أرجونة وجيّان.
في الوقت نفسه أرسل فرناندو سفيره إلى ابن هود وجرت بينهما مفاوضات انتهت بالاتفاق على تجديد الهدنة لمدة 3 أعوام، على أن يدفع ابن هود إتاوةً لملك قشتالة قدرها 130 ألف دينار، وأن يتنازل عن بعض الحصون الواقعة في جبل الشارات التي لم يستطع ابن هود حمايتها، وهي حصونٌ نائية بعيدة عن المسلمين.
وفي طريق عودته استولى فرناندو على بعض الحصون بعدما أمّن من فيها من المسلمين على أنفسهم وأن يأخذوا ما استطاعوا حمله من أمتعتهم، وكانت هذه الحصون من التي نصت عليها المعاهدة، ولم تكن كل هذه الأحداث من فرناندو إلا مقدمةً لهدفٍ أخطر وأكبر، وهو استيلاؤه على قرطبة.
أوضاع قرطبة المضطربة
يروي الدكتور محمد عبدالله عنان في موسوعته (دولة الإسلام في الأندلس) أن قرطبة عاصمة الأندلس كانت منذ انهيار سلطان الموحدين قد ثارت على الوالي الموحِّدي أبي الربيع وقتلوه، وترددوا في الدخول في طاعة ابن هود أم الدخول في طاعة ابن الأحمر.
كان أكثر أهل قرطبة أميل إلى ابن هود وآخرون أقلّ أيدوا ابن الأحمر، فنشبت بينهم الخلافات والتي جعلتهم لا يرون الخطر الداهم المُحدق بهم من القشتاليين، ولم يقف الأمر عند ذلك، بل بدأت الخصومات تظهر بينهم بل والخيانات أيضاً.
وفي هذه الظروف، في أوائل سنة 1236، خرجت مجموعة من الفرسان القشتاليين في منطقة أندوجر الواقعة في شرق قرطبة متّجهين نحو عاصمة الخلافة. وكانت مدينة قرطبة في هذا الوقت مقسمة إلى 5 مناطق، يفصل كل منطقة عن الأخرى سور فاصل، وكانت أول منطقة من الناحية الشرقية المحاذية للقشتاليين تسمى بـ"الربض الشرقي"، والتي ما إن وصل القشتاليون إلى مشارفها، وضعوا خطة لاقتحامها ودخولها.
تقول الرواية القشتالية إنّ الفرسان القشتاليين أسروا بعض المسلمين الناقمين على الأوضاع الداخلية في قرطبة، وعلموا منهم أن المدينة محروسة بشدة من قبل أهلها، واتفقوا معهم على إحداث خرقٍ في سور الربض الشرقي، والذي استطاعوا من خلاله أن يدخلوا إلى قرطبة وأن يستولوا على الابراج.
بعد ذلك عمل القشتاليون على قتل بعض من أهل الربض الشرقي في حين هرب الباقي إلى داخل باقي أقسام قرطبة الأخرى، وتصدَّى لهم بعض أهل الربض فَقُتِلَ عددٌ من الجانبين، ولكن المسيحيين ظلوا صامدين في الأبراج، وأرسلوا في الحال يطلبون المدد.
على إثر ذلك هرع اثنان من قادة الحدود كلٌ مع قواته، ثم تبعتهم مجموعة من الأساقفة ومعهم بعض الفرسان الآخرين، وما كادت الأخبار تصل إلى فرناندو ملك قشتالة حتى بادر بالخروج لقرطبة فوصل في 7 فبراير/شباط من عام 1236، ومع وصوله إلى القوات المجتمعة عند أسوار الربض، بدأ فرناندو في وضع خطة للاستيلاء على المدينة نهائياً.
اتجه القرطبيون لابن هود مستنجدين، فخرج، حينما علم بمقدم فرناندو، مع قواته من مدينة مرسية واتجه نحو الجنوب الشرقي وعسكر على مقربة من إستجة.
فى قرطبة تصدى أهلها للقشتاليين ودافعوا عن مدينتهم فى قتالٍ شديد ولكن كانت كل هذه جهود عفويّة دون قيادة موحدة وحازمة، وكان أهل قرطبة ينتظرون مقدم ابن هود لقتال القشتاليين، إلا أنه لم يستطع المجيء مع قواته بسبب صعوبة الطقس وهطول الأمطار الشديدة ونقص المؤن.
تسرد لنا الرواية القشتالية أنّ مجموعةً من الفرسان المرتزقة في جيش ابن هود حذَّروه كذباً من قوة جيش القشتاليين، بعدما أوهموه أنهم جمعوا الأخبار عنهم.
في ذلك الوقت كان أبوجميل زيان أمير بلنسية يواجه هجوماً من قبل ملك أراجون، مما دعاه للاستنجاد بابن هود، فما كان من ابن هود إلا أن ذهب إليه وترك قرطبة تواجه مصيرها المؤلم، وظل أهلها صامدين في الدفاع عنها.
إلا أن المؤرخ الدكتور محمد عبدالله عنان يقول إن هذه الروايات لا تلقى فى نظره "أي ضوءٍ مقنع على تصرف ابن هود"، إلا أنه لم يُرد كذلك أيَّ رواياتٍ من الطرف المسلم من جانب أهل قرطبة أو الأندلس.
بدوره، طوَّق فرناندو قرطبة وزاد في حصارها ومنع عنها المؤن والمدد من الخارج، وكادت مؤن قرطبة أن تنفد، ففاوض أهل قرطبة ملك قشتالة مضطرين لتسليم المدينة، على أن يُؤمنَّهم على أنفسهم، فوافق فرناندو.
في تلك اللحظة الحاسمة، شعر أهل قرطبة أنّ مؤن جيش قشتالة قد بدأت تنفد أيضاً، فرجعوا عن تفاوضهم أملاً في إنهاء الحصار وسلامة قرطبة، فشعر فرناندو أن هذا بتدبيرٍ من ابن هود، فأسرع لمعاهدة ابن الأحمر، فأجابه ابن الأحمر ووافق على التعاهد معه نكاية في ابن هود الذي اعتبره خصمه في رئاسة الأندلس، ونكاية في أهل قرطبة الذين طردوه منها قبل ذلك.
وهكذا، كان فرناندو يدعّم مواقفه العسكرية القوية بالسياسة، والتلاعب بالصراع بين ابن هود وابن الأحمر، فكلما حاصره أحدهما ذهب وتعاهد مع الآخر ليحيّده ويمنع أيّ تحالفٍ قد ينشأ بينهما. وقد كان أيّ تحالفٍ حقيقيّ بينهما، كفيلاً في أضعف الأحوال بصدّ فرناندو عن قرطبة.
سقوط قرطبة وتحويل الجامع الكبير إلى كنيسة
شعر أهل قرطبة بخسران قضيتهم فعادوا إلى مفاوضات تسليم قرطبة، وكان بعض مستشاري فرناندو يرون عدم قبول المفاوضات ودخول المدينة عنوةً وقتل كل من فيها من المسلمين. لكن كان رأي فرناندو ألا يدخلوا عنوةً، وذلك خوفاً من تخريب أهل قرطبة للمدينة، وبدأ أهل قرطبة يتركون مدينتهم وأخذوا ما استطاعوا حمله، وتفرقوا في شتى أنحاء الأندلس.
وفي يوم الأحد 29 يونيو/حزيران عام 1236، دخل القشتاليون قرطبة ودخلها فرناندو متوجَّهاً إلى الجامع الكبير وهناك استقبله الأساقفة وأقاموا قداس شكر بورك فيه الملك، ورفعوا الصليب على قمة الجامع الكبير وحوّلوه إلى كنيسة، ولا زال حتّى يومنا هذا كنيسة.
ثم سار فرناندو إلى قصر قرطبة ونزل فيه، وندب لحكم المدينة الدون تليو ألفونسو، وحشد لحماية المدينة حامية كافية من الفرسان، وأخذ النصارى يتوافدون إليها من كل الأرجاء وفق الخطة التي وضعها فرناندو لذلك.
وهكذا سقطت قرطبة، وأسدل الستار على عاصمة الخلافة وكبرى حواضر الأندلس، وقصر العلوم والآداب الأندلسية بعد أن حكمها المسلمون منذ عام 711 وحتى عام 1236، أي 525 عاماً.