في ضوء معضلة الاختيار التي تحدثنا عنها في المقال السابق، علينا أن نسأل سؤالاً مهماً على طريقة سقراط: لماذا يتجه المراهقون دوماً نحو السياسة؟ وكعادة الفلاسفة وغيرهم من العامة نحن لا نملك إجابات واضحة حيال أي سؤال، وإنما نملك أسئلة وحسب، بعضُ تلك الأسئلة يكون جيداً لدرجة أن نتناقش حوله.
في سن المراهقة يكون الشباب محملاً بالطاقة نوعاً ما، تلك الطاقة تخبر جيناته في جسده أنه قادر على تغيير مسار العالم، يحاول الهروب من وطأة الأهل والمجتمع الذي لا يزال يراه طفلاً يخطو خطواته الأولى، فلا يجد غير الدولة ليقع معها في صدام، حيث يجد فضاءً كاملاً من الأفكار والرؤى التي تراوده أو تستفزه، وفي الوقت نفسه لا يجد دليلاً يقول له إن هذا خطأ وهذا صواب، فكل ما هناك هو وجهات نظر، مهما كانت غبية فهي وجهات نظر لا أكثر.
يلجأ الشباب في تلك المرحلة إلى المناقشات السياسية للإحساس بالمشاركة، حتى بدون علم مسبق بأي قضية مما يتحدث بها؛ يحاول تكوين المعلومات من طرح الأسئلة على طريقة فلاسفة اليونان القدامى، ولكن لا يحصل على إجابات، فيحاول الرجوع للمصادر التي هي قليلة في العالم العربي، ثم ينتقل إلى الروايات ويحلل تلك الجمل بين السطور طبقاً لمنظوره هو، ويعكسها على الواقع الذي يعيش فيه، ربما يخرج بعبارات وأفكار كاملة لم يتحدث عنها الكاتب بالأساس، ولكنه رآها في تلك الصفحات الصامتة أمامه.
كل هذا جيد. ولكن لماذا لا يفكر الشباب في المجتمع قبل السياسة؟ أعتقد أن الاهتمام بالمجتمع يلقي على ذلك الشاب مسؤولية ذات درجة مشقة عالية تتطلب منه البحث والتحرك والتحدث ومحاولة إحداث تغييرات حتى ولو على نطاق ضيق، والالتزام. فيهرب من كل هذا بالحديث عن الوطن وسياساته بشكل أوسع، معتقداً أن تلك هي المهمة الأولى، ومتناسياً تماماً أنه مهما بلغت أفكاره قوة وعظمة فهو بحاجةٍ إلى مجتمع يفهمها ويطبقها بالأساس.
من الجيد أن يتحرك الشباب، كنت ممن شاركوا في ثورة يناير ورأيت تأثير الشباب فيها بالقدر الذي خلخَلَ مفاصل الدولة الغاشمة في تلك الفترة، ولكني حين كبرت وجدت أننا كنا نهرول في الطريق الخطأ، جرينا بكل قوتنا حتى اصطدمنا بالحائط، ولكن حين انهار وقفنا منبهرين بما فعلنا، متناسين أنه مجرد حائط وحيد قد سقط وأمامنا مبنى بكامله لا بد أن يهدم.
لحظة، لا تظن أننا كنا خطأ فعلاً، فقد كان الفعل نفسه قمة الصواب وفقاً لما توافر لدينا من وعي حينها، لقد قاتلنا بشرف حتى النهاية، وحاولنا بأقصى ما تمكّنا لنصل نهاية هذا الدرب، ولكن الوعي يأتي عن طريق التلقي أو التجربة، ونحن حصلنا على الطريقة الأصعب، لقد اختبرنا وعينا وتعلمنا من رحم تلك المعركة التي خضنا، ولكن هل من طريقة صحيحة؟ هل من حوائط يمكننا العبور منها دون أن نتهشم معها؟
الآن أرى أنه يمكننا التغيير دون الاصطدام بأي حوائط ونحن على سرعة عالية، فقط علينا العمل جنباً إلى جنب على الأرض في رفع وعى السكان في المناطق المحيطة بنا، وخاصة الأكثر فقراً وعدداً.
علينا أن نختار أو بمعنى أدق أن نرتب اختياراتنا: السياسة أولاً أم المجتمع؟
لو كان سقراط هنا لتكاثرت أسئلته حتى أغرقتنا. مثلاً كان سيقول: "هل من الجيد العمل بالسياسة في مجتمع ينتشر فيه الجهل؟"، "هل الفقر يمنع الأفكار من التنقل بحرية؟"، "هل المجتمعات الأكثر فقراً وجهلاً هي الأقل تأثراً واهتماماً بالأحداث السياسية؟".
ولكننا للأسف لا نقوى على كل تلك الإجابات معاً، فدعنا نتناقش قليلاً حول هذا، ولكن تذكر أنه مجرد نقاش وليس إجابة فاصلة.
علينا أن نعرف أن الجهل والفقر هما ذراعا الدولة القمعية، أن تكون جائعاً ليست مشكلة، وإنما هو أمر جيد بالنسبة لسلطة لا تريد سماع صوتك، وإذا كان دخلك لا يكفي لدرجة أنك لو توقفت عن العمل أسبوعاً أو أقل ربما تحدث مجاعة في أسرتك، فهذا هو حقاً الأمر الجيد.
تخيل مواطناً ليس لديه أي وقت كافٍ أو فارغ يمكن أن يقضيه في مراقبة نشاط الدولة ومحاولة تقييمه، أو حتى في طلب ما له من حقوق بين الحين والآخر. أو أن تكون جاهلاً، لا أقصد الأمية هنا، ربما تعرف القراءة والكتابة، ربما تقرأ الكتب كل نهار، ولكنك جاهل، تجهل ما يدور حولك من سياسات وأفكار، تجهل الحقوق والواجبات التي عليك ولك، تجهل تبعات اختياراتك وأفعالك اليومية بشكل مريب، هذا بالضبط هو تعريف الإنسان الجيد من وجهة نظر الدولة القمعية.
لكن هل من أمل، ولو شعاع رقيق من نور يرشدنا إلى المَخرج؟
أجل، فتوعية الناس بالفكرة التي تؤمن بها قبل أن تضعهم أمام تنفيذها هي المخرج الفعلي، وعليك أن تبدأ مبكراً، فسيُحدث هذا لك تفوقاً نوعياً على أرض المعركة، لن تكون سابقاً بخطوة فقط، بل ستكون قد مسحت أميالاً للآمال ممهداً الطريق لما تصبو إليه من خير تجاه الجميع. السكان هم عصب كل شيء، هم من يعملون في المصانع نهاراً، ويستخدمون المقاهي ليلاً. إذا فهم الناس ما يجب أن يفعلوا فلن ينتظروك لتقودهم حتى. سينطلقون هم.
وبالتالي، فإن نشاط الجمعيات الأهلية مهم، نشاط الشباب الجامعي في حملات التوعية مهم، كل حركة على رقعة الشطرنج مفيدة، في حال كنا نعلم ما نعلم منذ 11 عاماً، أظن أن الوضع كان سيختلف. أظن أن طريقة المعركة نفسها كانت ستختلف.
ولا أقول بأن نترك السياسة ونهمل فاعلياتها، ولكن هي مسألة ترتيب فحسب. وكي لا تفهم مقالي بشكل خطأ، أؤكد أن محاولات الشباب دوماً جيدة، حتى وإن كان يتخبط في الطريق، يكفي أنه حاول، يكفي أنه فرد من كل ألف تقريباً يحاول وحيداً السباحة فيما يستمتع الآخرون بالاستلام لمياه النهر الجاري.
فشجعوا بعضكم بعضاً، وتحركوا تجاه أفكاركم ومجتمعكم بشكل متوازن، وتعلموا ممن أخطأ فيمن مضوا بنفس الطريق قبلكم، وتذكروا أنه مجرد اختيار صغير قادر فعلاً على تغيير ذلك العالم، وأن الأمر لا يتوقف على الطاقة النابعة من دمك فقط.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.