تفصلنا ساعات قليلة عن العُرس الثقافي الأهم في مصر، معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الثانية والخمسين، هذا الحدث الذي تأجل وربما كان سيلغى بسبب الأوضاع المتعلقة بجائحة كورونا، لكن شاء القدر أن يسمح لنا معشر القراء والكُتّاب أن نحتفل بإقامة هذا الحدث ولمدة خمسة عشر يوماً في حضرة الأعمال الأدبية.
طالما كُنت أسأل نفسي لماذا تعد الكلمة قيّمة لهذه الدرجة، لكني أدركت هذا في الأمر الأول الذي نزل من السماء على رسول الله محمد ﷺ "اقرأ"، كما جاء قول الله تعالى في القرآن الكريم: "نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَص"، بالإضافة إلى قول الله تعالى: "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلَاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ"
كان هذا دليلاً واضحاً من الإله على أهمية وقيمة الكلمة.
في ليلة ما سألت صديقة كاتبة، لماذا تكتبين؟
أجابتني: لأن الكتابة مؤلمة وألمها يشعرني باللذة.
ابتسمت حينها، وصمَتُّ.
هناك أشياء يصعب الحديث عنها، لكن أظن أن بعض المحاولات قد نجحت في توضيحها، وأظن أن الكتابة كانت أهم تلك المحاولات.
الكاتب الحقيقي لا يقوم بالكتابة بغاية نشر أعماله، بل لأن لديهِ أمراً يودّ الإفصاح عنه، إنّ حاجة الكاتب إلى الكتابة توازي حاجتهُ إلى التنفس، وهو يستمر في ذلك رغم أكوام رسائل الرفض من دور النشر، ورغم الأهل أو الزوجة الذين يقولون له: لمَ لا تزاول عملاً حقيقياً أيها الأحمق؟
إنّ الكاتب يكتب لأنهُ حال لم يفعل ذلك فإن روحهُ تتضور جوعاً.
فالكتابة تجعلهُ يُفرغ قليلاً من الأمراض والهموم التي تنهشهُ كقطيع من الضباع الضائعة؛ كلّ هذه الحمم البركانية المُلتهبة داخله، الكلمات، تضيء عتمة روحه.
يقول أحدهم إن الإنسان الذي يكتب عن نفسه ووقته الخاص هو الإنسان الوحيد الذي يكتب عن جميع البشر وكل الأوقات.
لقد أرهقتني الكتابة بما يكفي، لكنّى ما زلت أعاند روحي، مستمراً في خوضها، تلك الرحلة متقلبة المزاج عندما أتخبط داخلي بين أفكاري المُبعثرة محاولاً التقاط واحدة منهنّ، وعندما أحصل عليها تهاجمني وتلتهمني حتى تفقدني القدرة على التوازن.
أنا أُدين بحياتي للكتابة لأنّي أظن أنها علمتني كلّ شيء في الحياة.
أكره تلك النصائح الأدبية، تلك التي يتم تداولها حول كيفية كتابة قصة، أكره هذه النصائح الأشبه بوصفات تحضير الطعام التي يخبرنا بها مقدمو برامج الطبخ، وهم جالسون في استديوهاتهم يشرحون خطوات ووصفات للأطباق الجاهزة. فأرى أن على الكاتب أن يخترع نفسه، وأن يخلق وجبته التي يفكر فيها.
ففي الكتابة سر الخلود كما قال الكاتب والفيلسوف "فولتير"، فأعمالنا الأدبية هي التي تُخلدنا، وإن الخلود لا يحقق لنا في حياتنا السعادة، لأن للخلود فاتورة لا بد وأن تُدفع وهي الوجع، فالسعادة لا تدفعنا لِأنْ نكتب أدباً أو نفكر، ما يدفعنا هو ما يحزننا، ما يبكينا.
الكتابة الجيّدة مبنية على فرضية بسيطة، تجربتك ليست لك وحدك، إنّما هي استعارة لتجارب الآخرين.
أرى أن الكتابة هي الشيء الوحيد الذي يمكنه أن يعيّد توازننا في هذه الحياة، أتذكر عندما أنظر إلى تلك الشاشة البيضاء التي أمامي، ذلك البياض الذي أحاول من خلاله أن أفرغ كل الأفكار التي أريد أن أخبر بها نفسي قبل أن أقولها لمن يقرأ.
عندما أكتب أتحدث إلى نفسي، كي أرمم داخلي المهجور، أكتب مِن وإلى روحي فأنا المُرسِل والمرسَل إليه، في كلّ مرة أكتب فيها أذهب في رحلة بين طيات الورق، أسافر وأتجول بين الكلمات، فتُحلق روحي في "لازَمَكان" خارج جسدي.
أتَعرّفُ إلى أشخاص جدد وثقافات أخرى، أُخاطب العلماء وأتسكع مع الفقراء في الطرقات، ففي الكتابة لا أملك جسداً، الكلمات هي من تختار الجسد الذي تسكنه، مرّة أصبح عربيداً ممسكاً الكأس بحانة وسط روما، ومرّة أتعبد إلى ربي بمسجد في بغداد أو بكنيسة أتأمل العذراء، ومرّة أتحدث مع امرأة بمقهى في باريس، وكثيراً ما أُصبح عابر سبيل أعبر بين هذا وذاك أتكلم وأصمت، أراقب وأنخرط وسط العامة، وفي نهاية رحلتي أصبح درويشاً ضلّ الطريق، لكنهُ تعلم الكثير، فأُغلق الورق وتعود روحي إلى جسدي، فيصبح جسدي الشيء الغريب.
لقد أرهقتني الكتابة بما يكفي لكنّي ما زلت أعاند روحي، مستمراً في خوضها، تلك الرحلة مُتقلبة المزاج عندما أتخبط داخلي بين أفكاري المتبعثرة من حولي، محاولاً التقاط واحدة منهنّ، وعندما أحصل عليها تهاجمني وتلتهمني حتى تفقدني القدرة على التوازن، وتدفعني للسقوط في بئر عميقة من الشك الدائم حول سؤال هل نجحت في التعبير عما يجول في خاطرك، لأكتشف في النّهاية أنّي مثل صديقتي أتلذذ بألم الكتابة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.