جلست أتذكر سقراط وشاركني كانْت الذكريات، في حين أن أفلاطون كان يلملم حاجاته لأنه سيغادر السكن، والتفت إلينا في هدوء قائلاً "لا أمل".
ربما لأن حينها كان أفلاطون لا يتذكر سوى حادثة المحاكمة الشهيرة، وبالمناسبة هو من نقلها لنا مع أغلب حوارات سقراط؛ لأن سقراط كان يرى أن الكلام وجهاً لوجه أفضل من الكتابة، فالكلمات لا ترد ولا تعبر عن وجه نظرها بوضوح.
ومات سقراط جراء السم الذي فضّل تناوله عن العيش في هذا المجتمع الذي قرر أن يقتل رجلاً لأنه يتساءل معظم الوقت، يمكنك تشبيه سقراط بذبابة تسبب لك الصداع، ولكنها لن تؤذيك بكل حال هي فقط تكرر صوتها بشكل رتيب حول أذنك فقط، ومع ذلك أنت مستعد لقتلها، هذا ما فعله سكان أثينا مع سقراط بالضبط.
رأى أفلاطون أن هذا المجتمع لا يحق له التصويت على أي قرار آخر بعد تصويته على موت سقراط، وتجلت أفكاره في بناء دولته المثلى على أسس شمولية تأتي جميع أفكارها وقراراتها من الأعلى. وهنا يطرح تساؤل مهم: هل تفضل يا عزيزي القارئ أن تعيش في دولة ديمقراطية حقاً؟ أن تعطي الحق لكل من يمر من هنا وهناك في ذلك الوطن ليقول كلمته؟ نعم هو نفس الوطن الذي تتمشى في شوارعه متهِماً كل من يقابلك بالغباء، هل تعطيهم الحق ليقرروا ما هو الصواب في كل شيء من سياسة واقتصاد وضوابط مجتمعية أخرى؟ أم تفضل العيش في دولة يحكمها الفلاسفة ويديرون القرارات كلها كبيرها وصغيرها من الأعلى وأنتم تنفذون؟
قبل أن تجيب تذكر أن كانْت يراقبك ومن مشاركتي له السكن هو رجل يكره الكذب كثيراً خصوصاً لو كنت تكذب على نفسك.
لمعت تلك الفكرة في رأس جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده حين تحدثا عن "المستبد المستنير"، ولكن الفكرة قديمة جداً في الفكر الروسي أيضاً، وكذلك حدد المؤرخ الألماني "فيلهلم روشرفي" هذا المصطلح عام 1847، وظل يحير علماء الاجتماع والفلسفة لفترة من الزمن.
ولكن هل تعتقد أن هذا المستبد المستنير يمتلك "الاستنارة" التي تحتاج إليها؟ أظن أن هذا هو السؤال الأهم: متى نعتبر المستبد المستنير مستنيراً حقاً؟ هل حين يوافق أفكارنا نحن؟ فماذا عن البقية؟ نعم هؤلاء الذين تنعتهم بالأغبياء كل صباح.. ماذا لو تمتع المستنير هذا بأفكارهم هم؟
أعتقد أن الإنسان يحكم على الشخص الصالح للحكم أنه صالح إذا ما تمتع بنفس التفكير الشخصي له، لذلك فدونالد ترامب كان جيداً في نظر كثير من الأمريكان في هذا التوقيت حسب رأيهم، وبالمنطق نفسه، تم عزل تشرشل بعد الحرب لأنه لا يناسب تفكير السكان حينها ورغبتهم في السلام العالمي وبداية البناء.
وأتذكر قول كَانْت: "شيئان يملآن قلبي بالإجلال والإعجاب المتجددين المتعاظمين على الدوام كلما أمعن التأمل فيهما: السماء المرصعة بالنجوم من فوقي والقانون الأخلاقي في داخلي". ويعكس هنا كانْت كل شيء للأخلاق بداخلنا، كأنها النجوم التي تضيء عتمة الليل الحزين بلا قمر. ولكن نعود لنسأل مجدداً من يحدد أن تلك الأخلاق صحيحة بالضرورة. حينها سنعود للتساؤل مرة أخرى، وربما نحن الآن في معضلة التساؤل الخاصة بسقراط حتى نستمر أن نسأل ونسأل في دوائر لا نهائية ومن ثم نشرب السم ونموت.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.