شيخي الذي لا ينام ولا يترك أحداً ينام.. عن الدكتور محمد نجيب الصبوة

عربي بوست
تم النشر: 2021/06/23 الساعة 12:51 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/06/23 الساعة 12:58 بتوقيت غرينتش
أحد أبرز المنظرين في العلاج المعرفي السلوكي بمصر، أستاذ علم النفس الإكلينيكي بجامعة القاهرة الأستاذ الدكتور محمد نجيب الصبوة/ الصفحة الشخصية له بفيسبوك

ليسمح سيدي وشيخي وأستاذي لقلمي أن يتحدث عنه، ولطالما تمنيت أن أكتب هذا المقال منذ أمد بعيد، غير أني كنت دائما ما أُحجم تهيبا، فبين تلاميذه النبهاء والنابغين والشباب من هو أقدر مني وأجدر بهذا المقام، ومن هم أقرب منه وأحب إليه، فلست سوى أحد طلابه قليل الشأن ضئيل المعرفة، التحقت بحلقاته العلمية حديثا وقد قاربت الأربعين، وما زال أمامي دهرا حتى أليق بمقام التلميذ منه.

ابتُليَت أوساطنا العلمية بصراعات ذميمة، وهوى متبع، وشح مطاع، فصرنا نرى من النكران ما يحزن القلوب، ومن التطاول ما يوغر الصدور، ضاعت فينا المروءة، وندر الوفاء، وأنكر الفضل، ولقد استعاذ نبينا صلى الله عليه وسلم من جلد الفاجر وعجز الثقات، فتصديت للأمر راجيا أن أحسن.

ولست اليوم بصدد الحديث عن الإنجازات العلمية والمهنية للعالم الفاضل الأستاذ الدكتور محمد نجيب الصبوة، أستاذ علم النفس الإكلينيكي بجامعة القاهرة، فهذه سهلة ميسورة الوصول إليها لمن أراد المعرفة، فكتبه وترجماته ومحاضراته وأبحاثه ودورياته وتلاميذه ملء السمع والبصر، حتى أشد كارهيه ليس بوسعهم نكرانها، لكني اليوم بصدد الحديث عن جانب آخر منه، جانب المعلم الإنسان، والمربي الملهم، والقائد الحازم، والعالم المتواضع.

ورغم قصر المدة التي انتظمت خلالها في دروسه وحلقاته، فإن أثره كان عظيما في تكوين شخصيتي، ومنهجي في التفكير والتعلم، وطريقتي في التطبيق، يكاد هذا الأثر يكون انقلابا كاملا في الرؤى والأفكار والتصورات، فدروس الأستاذ ليست مجرد نقل للمعارف والعلوم، وإنما هي بمثابة إعادة بناء منهجي كامل، يدرك ذلك كل من تتلمذ على يديه.

كان أول لقائي به حين تشرفنا بقدومه إلى جامعة المنيا مناقشا لأحد الرسائل العلمية، وكنت طالبا يخطو أولى خطواته في الدراسات العليا في تخصص الصحة النفسية، جلست  كالمسحور وأنا أستمع إلى مناقشته للباحث التي انقلبت إلى محاضرة عظيمة الفائدة للباحثين في أصول الكتابة العلمية وبناء برامج التدخل، انبهرت بموسوعيته، وحضور معلوماته، وترتيب أفكاره، وقوة حجته، وطلاقة لسانه، وعلى كثرة ما حضرت من مناقشات علمية، تبقى تلك المناقشة لا تنسى، انتهت المناقشة، وأسرعت إلى خارج القاعة أترقب خروجه لأنال شرف مصافحته، ولشدة دهشتي وجدته يتجه نحوي ويصافحني في حرارة كأنه يعرفني منذ أمد بعيد، وهو لا يعرف حتى اسمي!

منذ ذلك الحين صار أستاذي وصرت تلميذه، دأبت على السفر خصيصا من المنيا إلى القاهرة لحضور محاضراته والتدرب على يديه في جمعيته العلمية، ولوددت أن أجلس بين يديه كل يوم لا أفارقه، ما منعني من ذلك إلا كثرة انشغالاته وبعد المسافة وصعوبة السفر وما ابتلينا به من وباء.

وهناك، رأيت عملياً كيف يكون الأستاذ بين تلاميذه ومريديه، كيف -وهو الشيخ الذي قارب السبعين- يقف على قدميه محاضرا ومعلما ومدربا لخمس أو ست ساعات متصلة بلا انقطاع -ما شاء الله- إلا استراحة قصيرة للصلاة.

رأيت كيف يصبر على تلاميذه ويرفق بهم إن رأى فيهم رغبة صادقة وسعيا نحو التعلم، وكيف يزجرهم بشدة ويقسو عليهم إن رأى منهم تكاسلا أو شرودا، كيف يعنفهم بأشد الكلمات إن هم قصروا، ثم يقبلون منه ذلك دونما غضاضة، وقد علموا شفقته في قسوته، وحرصه في غضبه، سمعته مرارا يصرخ في بعض تلاميذه: "أصلك هتتعلم يعني هتتعلم، غصب عنك هتتعلم!"

رأيت تلك الفرحة الطفلة الصادقة في عينيه إن هو رأى في أحد تلاميذه نبوغا وتفوقا، رأيت تلك اللمعة في عينيه حين يتحدث عن تلاميذه الذين ملؤوا مقاعد الأساتذة في معظم الجامعات المصرية والعربية، رأيت التوقير والاحترام والاعتزاز حين يتحدث عن أساتذته وأصحاب الفضل عليه.

تشعر وأنت جالس بين يديه وسط عشرات الطلاب أنه لا ينظر إلا إليك، ولا يهتم بسواك، تدور عينيه على كل طالب، فمن وجده منتبها حفزه بنظرة من عينيه وابتسامة خفيفة، ومن وجده شاردا فاجأه بسؤال يعيده إلى المحاضرة بكامل انتباهه فورا، وإن وجده مهموما منشغل الذهن دعاه بعد المحاضرة إلى مكتبه وسأله عن حاله وعرف همه وعضده.

يضيق المقام ولا تسعفني الكلمات إن أردت أن أوفي شيخي حقه، بل لا أكون مبالغاً قيد أنملة إن قلت إننا أمام عالم معلم أسطوري قل مثيله، أشبه ما يكون بالمعلمين القدامى في القرون الثلاثة الأولى الذين نقلت إلينا المصنفات والمرويات والترجمات من حرصهم على العلم ودأبهم وفناء أعمارهم فيه وعنايتهم بتلاميذهم ما هو مضرب الأمثال، أضع الصبوة في مصاف الغزالي والماوردي والنووي وابن تيمية وابن القيم وكل عظماء التاريخ.

فهو أستاذ الجامعة والباحث والمشرف، وهو المؤلف والمترجم والقارئ النهم، وهو المعالج النفسي والمدير والخبير والمدرب، وهو الأب والأخ والزوج والجد والصديق، وهو يقوم بكل تلك الأدوار باتزان وعدالة، ويعطيها كلها حقها، وإن أكثرنا نبوغا وحيوية ونشاطا وحماسا ليلهث خلف هذا الشيخ ثم لا يستطيع أن يدانيه أو يقترب منه.

كان الصحابة والتابعون وحتى الأعداء يقولون على سيف الله خالد بن الوليد رضي الله عنه "لا ينام، ولا يترك أحد ينام"، فلا هو يرتاح وينام، ولا يدع جنوده وأصحابه ينامون، فهم معه في شغل وحركة دائبة ودفاع ومهام لا تنتهي، ولا هو يترك أعداءه ينامون من شدة الروع والفزع والترقب والألم، ولا يترك منافسيه ينامون، فإنهم إن تباطئوا سبقهم أشواطا كبيرة، ولست أرى أجدر بهذا اللقب في هذا الزمان وفي ميدان العلم من شيخنا وأستاذنا الجليل، محمد نجيب الصفوة، الذي لا ينام .. ولا يترك أحدا ينام.

https://www.facebook.com/watch/?v=2007518022861709

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

يوسف خضر
مرشد نفسي ومعالج أسري
مرشد نفسي ومعالج أسري
تحميل المزيد