انطلاقاً من القاعدة القيمية المزعومة "اليهود هم شعب الله المختار على الأرض التي منحهم الله إياها"، يقول ديفيد بن جوريون إبان حرب 1967م: "لقد آمنا طوال آلاف السنين بنبوءات أنبيائنا، وإن الصهيونية تستمد وجودها من مصدر أبدي هو الوعد الإلهي"[1].
التأصيل الديني للصراع
الخلل الأكبر في التعاطي العربي في تناولهم القضية الفلسطينية، هو إشكالية فهم حقيقة الصراع الإسرائيلي بوصفه كياناً علمانيّاً غايته المصالح القومية والسيطرة على الأرض، وفصله عن التأصيل الديني الرئيسي الذي ينطلق منه الصهاينة في بناء "وطن قومي لليهود".
وكان من نتائج أزمات الحراك العربي ضموره في الخطابات والطروح والإنتاج الفكري الذي تخلف بصورة مزعجة، وتراجع كمّاً وكيفاً فلا تكاد تجد كتاباً أو مشروعاً تربويّاً شاملاً ترك أثراً في الواعية الثقافية للمجتمع العربي في مقابل التنشئة الدينية والعنصرية الصهيونية لأبنائها.
التساؤل البديهي الذي قد يُطرح عن كيف سيتحقق "النظام الإلهي" لإسرائيل بينما الكيان علمانيّ؟ أي غير ديني؟ يقدم المفكر الإنجيلي الصهيوني ديفيد باوسون 1985م حلّاً للمعضلة قائلاً: "أرى في كل مكان من الكتاب المقدس نبوءات تتعلق بإعادة النظام الإلهي إلى إسرائيل، قد نتساءل: كيف يحصل هذا في إسرائيل الحديثة وهي دولة علمانية؟ إن الله هو الذي سيحل المشكلة، هل يمكن أن يطرد الله اليهود من الأرض بسبب إثمهم من جديد؟ كلا لن يحدث هذا مرة أخرى، ما سيحصل في المستقبل هو العودة والاستعادة الروحيتان وهو ما يحصل الآن، نحن المسيحيون الصهيونيون نعلن ملكوت الله، يوماً ما سيرى الجميع إسرائيل الروحية من جديد"[2]، بهذا سينقلب اليهود الحاليون في إسرائيل إلى ملتزمين متدينين، وأما فيما قبل ذلك من الشطط الروحي وتزعزع العقيدة الدينية وسط أبناء اليهود الصهيونيين، فلا تثريب.
من الملاحظ بناءً على هذا المد الديني المتأصل أن يتحكم ذلك التيار على معظم الوزارات والهيئات الحكومية، بل لديه القدرة التحكمية على إسقاط الحكومات وإعادة تشكيلها، وتلعب الأحزاب الدينية دوراً مركزيّاً بين أحزاب اليسار مثل "العمل" وأحزاب اليمين مثل "الليكود"، وكلها تهدف إلى السيطرة على نظام الحكم وقلب الموازين لصالح الهدف اليهودي الديني الصهيوني من استيطان فلسطين.
التربية العنصرية في المناهج الصهيونية
القوة في العقلية الصهيونية هي خيار استراتيجي متأصل ومستمر وليست خياراً ظرفيّاً تحكمه العوامل الطارئة، والتربية العنصرية ملازمة لأهدافهم ومساعيهم في استخدام هذه القوة وتوجيهها لدعم مخططاتهم في صراعهم مع العرب، اعتماداً على عنصرين مهمين: حيازة أقوى عتاد عسكري واستخدامه بأقسى طريقة ممكنة، وإعداد أجيال متتابعة من أبناء الصهاينة مشحونة بالعداء والكره والقسوة أمام أعدائهم. وثقافة العنف العبراني التي امتدت لقرون طويلة، يمكن قياس مدى تأثيرها الدموي عبر الاقتران التطابقي الشديد بين "فكرة أمريكا" وتلبسها جوهر "فكرة إسرائيل" مستخدمةً كل بلاغة العنف الأبيض، فقط استبدل "الهنود الحمر" بدل "العرب الأوائل"، وتعاد الكرة الآن من جديد مع "العرب" الحاليين[3].
وامتداداً لنفس الثقافة الصهيونية عبر الأجيال، تقوم حاخاميات عسكرية متخصصة في تولي مهمة التوجيه الفكري والديني داخل القوات المسلحة الحالية، وربطها بالسياسة الداخلية للكيان الصهيوني المتجذرة في مناهجه العنصرية وأفكار التطرف الديني المتفشي في جنباته. وتباشر تلك الحاخاميات كل شؤون الأحوال الشخصية المتعلقة بالعسكريين، وتشرف على المدارس العسكرية الدينية والتنشئة التربوية الصارمة لأبناء اليهود، لتخرج أجيال مسكونة بالكراهية والعدوانية المطلقة ليس فقط من قبل الجنود، بل لدى المستوطنين تجاه العرب، واعتماداً على إضفاء نوع من القداسة تجاه الممارسات والجرائم المرتكبة ضد الفلسطينيين.
وقد حرص "الآباء المؤسسون" على توريث ثقافة القوة والعنصرية الدينية عبر التعليم الممنهج من خلال تدريب الأطفال على حمل أنواع مختلفة من الأسلحة والذخائر واستخدامها، وزرع العقيدة القتالية داخل عقولهم لكي لا يلجؤوا إلى السلام بديلاً للحرب حتى تتحقق أهدافهم، كما يخضع الإسرائيليون للخدمة العسكرية الجبرية في الجيش الإسرائيلي في سن الثامنة عشرة، ويؤجل من الخدمة من يلتحق بالمدارس الدينية اليهودية. على جانبٍ آخر، يقوم الإعلام المرتكز بدوره كسلاح معنوي على تصدير ثقافة الحروب وتقديس الجيش الإسرائيلي حتى في أدق برامج الترفيه والأغاني والرقص التي تقدمها قنوات التلفزة العبرية لأطفالها وشبابها.
العداء والاحتكار والكراهية للعرب والمسلمين
يقال إن الاضطهاد الذي طال اليهود وتعرضوا له إبان الحرب العالمية وما قبلها من تهجير وكراهية في كل مكان وزمان يحلون به منذ القرن الرابع الميلادي حين وُضعت علامة الخيانة على اسم كل يهودي في المناطق الخاضعة لأسقف روما، والتي أصبحت وصمة عار سهَّلت على المسيحيين لألف وخمس مئة سنة أن يتعاطوا مع اليهود وكأنهم من غير الكائنات، هو الذريعة التي دفعت اليهود الصهاينة إلى الإساءة إلى العرب بنفس المعاملة التي عانوا منها طيلة عقود في أوروبا، وهي السخرية الكامنة التي أشار إليها المفكر اليهودي (و. براون) عام 1919م في تعامل اليهود مع العرب: "نحن الذين نتعرض للاضطهاد في كل العالم ونطالب لأنفسنا بكل الحقوق الإنسانية نذهب إلى فلسطين لنقلب الأدوار"[4].
إن عداء متطرفي اليهود للعرب متعمق في أصولهم فيمتد إلى آلاف السنين[5]، وله مظاهر كثيرة منها:
1- الاحتقار: بتسميتهم "الجوييم" أي الأغيار عن الصهاينة، فينظر إليهم اليهود نظرة عبيد يجب أن يرحلوا عن فلسطين إلى الأبد، وأنهم أكثر إنسانيةً وضحيةً من العرب، ولا يمكن لأي فلسطيني عربي أن يعمل أو يتاجر أو يؤجر أرضاً أو يسافر إلى أهله إلا بتصريح منهم.
2- وصفهم بأبشع الصفات: فلا يترفعون عن إطلاق أقسى الأوصاف والشتائم حتى داخل مقرراتهم التعليمية، فيطلقون عليهم بيت الزواحف العربية واللصوص المختلسين والبدو الفقراء وقطاع الطرق والخونة الأنذال.
3- الادعاء بأن فلسطين أرض بلا شعب: المقولة الشهيرة "إن فلسطين أرضٌ بلا شعبٍ يأخذها شعبٌ بلا أرضٍ"؛ كانت أساساً لانطلاقة مشروع "الدولة اليهودية" المزعومة على أرض فلسطين، والتي شكَّك فيها أصوات كثيرة من يهود أوروبا حينذاك في إمكانية إقامة الدولة، حتى أُرسل بعض الحاخامات ليعاينوا الأرض على حقيقتها وعادوا بصدمة من جمال ما رأوه لكن مع وجود شعبٍ حقيقيٍّ يسكنها. وهذا يفسر لماذا تملَّكت اليهود إبان تأسيس الكيان عام 48 رغبةً عارمةً في طرد العرب عشية التأسيس لإكمال "الحلم اليهودي" الخالص كما يقول بن جوريون: "إسرائيل هي وطن اليهود واليهود وحدهم".
4- إن كان هناك شعب لا يستحق دولة، فالشعب الفلسطينى في اعتقاد اليهود شعبٌ بدويٌّ متخلفٌ بلا حضارة لم يكن ليؤسس دولة مستقلة لولا دولة "إسرائيل"، بل كانوا قبائل وقرىً يتقاتلون فيما بينهم ولم يكونوا على وعيٍ لأي علاقةٍ بالأرض.
بناءً على تلك الرؤية البسيطة المجردة عن التفصيل، وإمعاناً للنظر في رسالة العنصرية والبطش التي تتخلل أقوال المفكرين الصهاينة وزعمائهم، فإن العوائق القانونية والأخلاقية لا أساس ولا تأثير لها في استخدام ثقافة القوة والعنصرية الدينية لليهود الصهاينة، فقد تجاوزوها منذ فجر التاريخ ولا يشعرون تجاهها بأي حرجٍ أو تأزُّمٍ، ومن ثم محاولة وقف العدوان الإسرائيلي عن طريق "الإفحام" الأخلاقي والقانوني التي يروِّج له البعض لن يصل إلى شيء، فهم -أي اليهود حسب قول شومير- "يذبحون ويُؤجرون".
المراجع
[1] تربية العنصرية في المناهج الإسرائيلية، ص61.
[2] كولن تشابمان، أرض المعياد لمن؟ ص483.
[3] انظر: تلمود العم سام، تأليف منير العكش، ص210 – 211، لمزيد من التفاصيل.
[4] أرض الميعاد لمن؟ ص356.
[5] انظر: لماذا يكرهون حماس؟ تأليف أحمد فهمي، ص25 – 33، لمزيد من التفاصيل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.