عندما كنا صغار السن، كان يفصل بين منزلنا وشارع المتنبي نهر دجلة الخالد الذي مر بحوادث تاريخية كثيرة كان هو الشاهد الصامت والوحيد عليها، وفي الصباح الباكر عندما تزقزق العصافير حاملة معها عطور الياسمين بعد أن طافت بغداد وأيقظت البغداديين الذين تختلف طقوس يوم الجمعة عندهم عن الآخرين، فتبدأ الوفود إلى شارع المتنبي بتناول الفطور المفضل لدى العراقيين "كاهي وقيمر".
ثم تعبر بعده جسر الشهداء، وبموازاة نهر دجلة ستنشد عيناك مبنى تراثياَ جداً من الوهلة الأولى، ما إن تتقدم تجاهه حتى تظهر ملامح المدرسة المستنصرية التي بنيت في زمن الدولة العباسية على يد الخليفة المستنصر بالله، ثم تكمل طريقك باتجاه المتنبي. وشهد هذا الجسر حادثة قتل المتظاهرين في فترة الاحتلال الإنجليزي، وكأنه كُتب على جباه هذا الشعب بأن يكون ثائراً بوجه الطغاة على مدى التاريخ.
وتبدأ الزيارة أولاً بسوق السراي الذي يعود تاريخه إلى 1660، إذ بناه ابن الوزير محمد باشا في زمن الدولة العثمانية، ويعتبر امتداداً لشارع المتنبي. وتُزين هذا السوق على جانبيه محلات لبيع المستلزمات المدرسية يتخللها محلات السراجين، وما إن تطأ قدماك أرض شارع المتنبي حتى تصادفك أقدم دار نشر في العراق، دار المثنى، لصاحبها قاسم محمد الرجب رحمه الله. وللعراق باع طويل في مجال الطباعة ونشر حيث دخلت إليه المطبعة سنة 1816 على يد داود باشا الكرجي في فترة حكم المماليك.
ومن أهم معالم شارع المتنبي مقهى الشابندر وهو من أشهر المقاهي القديمة في بغداد، وأسس عام 1907 لمالكه موسى الشابندر، الذي ألقت عليه الصراعات الدموية آثارها، إثر انفجار لا يمحى من الأذهان ولا من الذاكرة في عام 2007.
لكن الشعب العراقي بطبيعته محب للحياة رغم فظاظة وبشاعة الأمر، وينبثق له من رحم الألم حياة جديدة، تم ترميم المقهى وعاد إلى العمل حتى الآن، ولا أنسى المدرسة الموفقية أو مبنى القشلة، من أبرز ملامح شارع المتنبي، ويعود تأسيسها إلى عام 1861 في عهد الوالي العثماني مدحت باشا حيث أكمل بناء القشلة، ومعنى كلمة القشلة باللغة التركية القشلاغ يطلق على ثكنة الجند وقت تعسكرهم، ومرت القشلة بتغيرات سياسية عديدة ففي عام 1917 وبعد سقوط بغداد، رفع فوقها العلم البريطاني واستعملت داراً للقيادة البريطانية، وفي عام 1921 توج الملك فيصل الأول في ساحة المبنى، وفي عام 2003 تعرضت للتخريب المتعمد.
نكمل الطريق متجولين في شارع المتنبي ونشاهد بسطات الكتب في مشهد لا مثيل له، آلاف الكتب والعناوين ومئات دور النشر الأهلية، في هذا الشارع العريق الذي يكاد ينطق مصرحاً بقدمه وتراثه، ملتقى للفنانين والشعراء والأدباء على أرض هذا الشارع لتبادل الأحاديث المطولة وليلتقي الأحبة مع بعضهم.
وتتخلل شارع المتنبي "الدرابين" الضيقة القديمة التي تحمل عشرات البيوت اليهودية القديمة وعشرات الجوامع الأثرية وأشهرها جامع الحيدر خانة الذي يعود تاريخ إنشائه إلى الدولة العباسية على يد الخليفة أحمد الناصر لدين الله، وتمت إعادة إعمار الجامع على يد السلطان العثماني عبدالحميد الثاني. ويعتبر جامع الحيدر خانة من أجمل وأهم جوامع بغداد ففي عام 1920 انطلقت منه بداية أحداث ثورة العشرين لذلك حتى سمي بالجامع الثائر.
فعلاً فإن كل شبر من بغداد هو حكاية تاريخ وحضارة، وبالرغم من كل مما ذكرته، فإنه يعاني الإهمال والترك، حضارة كاملة توالت عليها الأجيال والدول إلا أنها مهمشة وبدون عناية أو ترميم، وأغلبها تعاني الترك إلا ما ندر منها بسبب الظروف العصيبة التي مر بها العراق والتحديات الطويلة التي أرهقت شعباً كاملاً.
إلا أن أحياناً الظروف الصعبة هي التي تصنع الرجال، والطامة الكبرى بأن تاريخ أمة كاملة معرض للاندثار والنسيان، فأصل المشكلة هي عندما يجهل الشاب تاريخ أمته وينسى حضارته ويتأثر بالغالب ويلعب دور الضحية فتهتز ثقته بنفسه ويهزم، ويبقى شاباً عاجزاً بلا ماضٍ ولا حاضر ولا حتى مستقبل.
ونعود إلى أن الاعتزاز بحضارتنا هو ما يهون علينا مصيبتنا، ويكون لنا حافزاً للتقدم، فالظروف الصعبة هي التي تصنع حضارة، وتصنع جيلاً شبابياً قادراً على الإنجاز.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.