تحالفات سياسية وانقلابات دموية وتدخلات خارجية.. تاريخ الصراع بين اليسار واليمين على السلطة في تركيا

عربي بوست
تم النشر: 2021/04/22 الساعة 13:20 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/04/22 الساعة 13:21 بتوقيت غرينتش
رويترز

كان انهيار الدولة العثمانية في خضم الحرب العالمية الأولى عام 1918 قد خلّف فراغاً سياسياً في شبه الجزيرة التركية، بجانبيها الآسيوي والأوروبي، ثم تطور الأمر إلى إلغاء الخلافة الإسلامية عام 1924 بموجب معاهدة لوزان، في إثر حرب الاستقلال الوطنية التركية التي قادها مصطفى كمال أتاتورك. وكان الأخير يؤمن بضرورة تغيير وتخلي تركيا عن التراث العثماني "المتخلف"، فقام بإحلال مبادئ الحكم العلماني ووضع الدستور لتركيا عام 1924، وقام بإجراءات تهدف إلى تقييد وقمع المظاهر الإسلامية في المجتمع التركي. 

في تلك الأثناء سيطر أتاتورك على المشهد السياسي التركي بنظام الحزب الواحد، وهو حزب "الشعب الجمهوري" الذي كان رئيساً وزعيماً له مع كونه رئيساً لتركيا، وفي هذا السياق ولد ما يعرف بـ"الديكتاتورية الأتاتوركية". استمر الأمر على هذا المنوال حتى وفاته عام 1936 ونشوب الحرب العالمية الثانية التي انتهت عام 1945. وكانت نهايتها أن أحدثت تغييرات سياسية وأيديولوجية واقتصادية في العالم، من أهمها ظهور قوتين وهما الاتحاد السوفييتي ودولة الولايات المتحدة الأمريكية وصراعهما على سيادة العالم.
في إطار ذلك الصراع البارد وجد الحلفاء بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية أنفسهم مضطرين لإقامة أنظمة ديمقراطية للدول التي تسير في فلك الرأسمالية الغربية، لمواجهة الدعاية الشيوعية. وجاءت رياح التغيير جراء هذه السياسة إلى تركيا. أول مظاهر التغيير كان سَن قانون يسمح بالتعددية الحزبية، في 7 ديسمبر/كانون الأول 1947، فظهر الحزب الديمقراطي على المسرح السياسي التركي في نفس السنة المذكورة، وكان من التيارات اليمينية بقيادة عدنان مندريس وجلال بايار وسليمان ديميريل. 

بظهور هذا الحزب بدأ الصراع بين اليمين واليسار. الأخير متمثل في حزب "الشعب الجمهوري" ذي الميول اليسارية، واليمين متمثل بالحزب الديمقراطي بقيادة مندريس. الصراع على السلطة في تركيا دفع ثمنه الشعب بسبب العنف والاستبداد الذي مارسه واستخدمه حزب "الشعب الجمهوري" بدعم من المؤسسة العسكرية، بحجة المحافظة على علمانية الدولة والمبادئ الأتاتوركية التي وضعها لنهضة تركيا، لكن في حقيقة الأمر، فإن اليسار متجسداً في الحزب الجمهوري، كان هدفه الانفراد بالسلطة. 

ظهر الصراع للسطح مع توالي الإصلاحات والتغييرات التي قام بها الحزب الديمقراطي عام 1950 بعد فوزه بالانتخابات التي جرت في ذلك العام، وكان من تلك الإصلاحات ما هو متعلق بنظام التعليم وإرجاع الأذان باللغة العربية، بعد أن غيره أتاتورك إلى اللغة التركية، وإقامة علاقة ودية مع دول العالم العربي والإسلامية، الانضمام إلى حلف الناتو الغربي عام 1952، وتبني سياسات أكثر رأسمالية، وعلى رأسها تأسيس اقتصاد السوق الحر. تلك السياسات والإصلاحات أغضبت اليسار بسبب تراجع شعبية الأخير أكثر، خاصة بعد انهزام حزب الشعب أمام الحزب الديمقراطي في الانتخابات التي حصلت عام ،1957 لذلك بدأ اليسار بانتهاج سياسة العنف للوصول إلى سدة الحكم. فقرر التحالف مع الجيش المتأثر بالأفكار العلمانية لمصطفى كمال أتاتورك للإطاحة بحكومة مندريس، فتحرك الجيش بقيادة جمال كورسيل، في 27 مايو/آيار عام 1960، وتمت الإطاحة بحكومة الحزب الديمقراطي اليميني ومحاكمة أعضاء الحكومة ورئيس وزرائها عدنان مندريس الذي حُكم عليه بالإعدام.

وبذلك نجح اليسار بإعادة تركيا إلى أيام ما قبل عام 1950، وفاز حزب الشعب بانتخابات عام 1961، بإعادة برمجة الدستور بطريقة تجعل المؤسسة العسكرية هي المسيطر على المشهد السياسي في البلاد. وجعلت السلطات التنفيذية أقوى من السلطات التشريعية، وأصبح الجنرال جمال كورسيل قائد الانقلاب رئيساً لجمهورية تركيا. وبذلك سيطر التيار اليساري المناصر لأفكار أتاتورك على السلطة، ووجّه ضربةً موجعة لليمين.

تهديد الأفكار الأتاتوركية

لكن الصراع لم ينتهِ، إذ ظهر حزب يميني جديد باسم حزب "العدالة" بقيادة سليمان ديميريل، فضلاً عن ظهور أحزاب جديدة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار؛ كحزب "تركيا الجديدة"، وحزب "العمال التركي"، و"الحزب الفلاحي"، معاً شكلت تلك الأحزاب الخريطة الجديدة للمشهد السياسي التركي.

رغم التعددية الحزبية بقي التيار اليساري مسيطراً على العملية السياسية، ففي انتخابات أكتوبر/تشرين الأول عام 1961، حصل حزب الشعب على نسبة 36.7% من الأصوات، أما حزب العدالة "اليميني" فقد حصل على 34.7% من الأصوات.

لكن "اليمين" استغلّ مسألة التعددية الحزبية بالرغم من السيطرة العسكرية على الحياة السياسية، فقام بحشد جهوده لاكتساب أصوات جديدة، وفي سنة 1965 حصلت انتخابات فاز بها حزب العدالة بقيادة سليمان ديميريل، فردّ اليسار باستخدام القوة مرة ثانية، بسبب سيطرة اليمين مرة أخرى، ثم تطورت الأحداث إلى الأسوأ بنهاية عام 1969، عندما أعيد انتخاب تلك الحكومة التي تهدد الأفكار الأتاتوركية العلمانية، وازداد الأمر صعوبة بوقوع أزمة اقتصادية تخللتها اضطرابات اجتماعية وعمالية بمظاهرات كانت تجوب الشوارع، ونشوب ظاهرة الاغتيالات السياسية بتدبير من اليسار واليمين المتطرفين.

 من 1969 إلى 1970 قام الجناح اليساري بتنفيذ اغتيالات وعمليات اختطاف، وكذلك ردّ اليمين المتطرف ثم تطور الأمر إلى تهديد النظام العلماني الحاكم والقيام باختطاف جنود أمريكان في البلاد، ومهاجمة بعض القواعد الأمريكية (ومن المرجح أن يكون السوفييت قد لعبوا دوراً في تلك العمليات) مهما يكن من أمر فقد أصبحت المصالح الأمريكية مهددة في تركيا، فلا بد من التدخل، فتلاقت المصالح الأمريكية مع مصالح الجيش التركي بتدبير انقلاب عرف بـ"انقلاب المذكرة" في 12 مارس/آذار عام 1971، وسمي بهذا الاسم لأن الجيش أرسل مذكرة تجبر رئيس الوزراء آنذاك "سليمان ديميريل" بالتنحي عن السلطة، وفي حالة الرفض سوف يرسلون الدبابات بدلاً من المذكرة لإزاحته من الحكم، فوافق على ذلك.

الانقلاب الكبير

تطوّر المشهد السياسي التركي بظهور نجم الدين أربكان، اليميني المعتدل، ذو الميول الإسلامية في تركيا العلمانية، وتطور الأمر إلى إنشائه حزب "السلامة الوطني"، وقد استغل هذا الحزب حالة تعطش الأتراك إلى الإسلام، وحقق نجاحاً باهراً في انتخابات عام 1973، وحصل على ثالث أعلى نسبة من الأصوات في المجلس النيابي، واشترك مع حزب الشعب الجمهوري بتكوين حكومة ائتلافية. وارتفعت مكانة أربكان، خاصة بعد غزو تركيا قبرص، إذ ترجم ذلك في انتخابات عام 1975 بحصوله على ثاني أعلى الأصوات في المجلس النيابي، وتطور الأمر بظهور حزب "الحركة القومية" بقيادة ألب أرسلان توركش، وهو حزب قومي عنصري، لكنه لا يعادي التوجه الإسلامي.

أثارت تلك التغييرات حفيظة الجيش التركي واليسار، المؤمنين بأفكار مصطفى كمال أتاتورك، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية تراقب تحركات أربكان وتقاربه مع الحركة القومية المذكورة عن كثب، وبذلك بدأ اليسار يفقد زمام الأمر في السياسة التركية.. فبدأت فترة جديدة أكثر دموية من العنف السياسي! تم خلالها تسويق الجيش باعتباره الحل الوحيد لإنقاذ تركيا من الفوضى السياسية والعنف، وهذا ما تحقق بالفعل، إذ وقعت أعمال عنف كثيرة، واضطرابات عمالية، وعمليات خطف وقتل حتى بدأ الإنسان لا يأمن على نفسه، وتعطينا التقارير الدولية أرقاماً تشير إلى مدى حدة العنف عام 1980 قبيل الانقلاب العسكري، حيث وصل عداد القتلى إلى 4040 قتيلاً. وتطور الأمر بقيام المنظمات العمالية المدعومة من السوفييت إلى تنظيم الاضطرابات التي تحمل طابع التحدي والعصيان من أجل شل الحركة الاقتصادية في تركيا ودفع ثمنها المواطن.

فقام الجنرال التركي كنعان إيفرين الذي حصل على دعم المخابرات الأمريكية (CIA)، في يوم 12 سبتمبر/أيلول عام 1980، بإذاعة بيان الانقلاب العسكري، ادعى فيه ضرورة القضاء على العنف السياسي ممن يهددون الأفكار العلمانية الأتاتوركية، وسمى هؤلاء المسببين للعنف بالشيوعيين والإسلاميين المتزمتين.

 ويعود دعم أمريكا للانقلاب العسكري إلى خوفها من تكرار نموذج الثورة الإيرانية عام 1979 وانهيار نظام الشاه الموالي للغرب، فإذا حصلت ثورة إسلامية في تركيا فإن ذلك يهدد الأهداف الاستراتيجية الأمريكية في تركيا، بسبب قربها من الاتحاد السوفييتي ووجود قواعد أمريكية بكثرة فيها، إذ برزت أهمية تركيا الجيوسياسية في أزمة الصواريخ الكوبية 1960-1963، عندما هدد السوفييت أراضي الولايات المتحدة عن طريق كوبا الشيوعية، لذلك دعمت أمريكا بصريح العبارة هذا الانقلاب.

 والغريب في الأمر أن العنف السياسي توقف فجأة، بنجاح الانقلاب العسكري، ما أعطى دلائل وشواهد على ضلوع الجيش التركي في إثارة العنف السياسي وحالة الفوضى التي فرضت على البلاد بعلم الولايات المتحدة.

في إثر الانقلاب، تمت إزاحة الأحزاب اليمينية، واعتقال قرابة 650,000 مواطن، ومحاكمة 230,000 شخص عسكرياً، وصدر بحق 517 أحكام بالإعدام، ووقعت 299 حالة وفاة تحت التعذيب، وانتحار 43 شخصاً وقتل 16 أثناء هروبهم، وإقالة 3654 مدرساً، و47 قاضياً، و120 أستاذاً جامعياً، ووضعت الأجهزة الأمنية التابعة للانقلاب مليوناً ونصف المليون مواطن تركي تحت المراقبة، ووضعت عليهم ملاحظات أمنية، بحجة تهديدهم للأمن القومي التركي.

أما قادة الانقلاب فقد عاملهم الإعلام التركي كأبطال قوميين، وبفضل البند 15 من دستور عام 1982 أصبح لكنعان إيفرين وبقية القادة الانقلابيين حصانة مدى الحياة، فعاش هؤلاء حياة آمنة طيلة حكمهم.

الخلاصة

العملية السياسية التركية قد مرت بتجارب قاسية في الماضي القريب، إذ إن الموقع الاستراتيجي التركي، بالقرب من الاتحاد السوفييتي سابقاً، منحها أهمية كبيرة عند العم سام، في مواجهة الشيوعية، وللحفاظ على المصالح الأمريكية الاستراتيجية، حتى وإن دفع ثمنها الأتراك.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

كرار جواد
أستاذ جامعي عراقي
أستاذ جامعي عراقي
تحميل المزيد