ما الكتب إلّا رحلة، تأخذنا من دُنيانا لتُلقي بنا في أمكنةٍ وأزمنةٍ أخرى، رحلةٌ قد تكون مُمتعة، أو مُرهقة، أو كلتيهما معاً، وقد تكون سهلة ومألوفة حدّ الملل. رحلةٌ قد نندم أنّنا خُضناها، وقد نُكرّرها مرات ومرات، لكونها في كل مرةٍ، تفتح لنا أبواباً جديدة، لم نلتفت إليها من قبل.
ومن خلال رواية بساتين البصرة، الصادرة حديثاً للكاتبة منصورة عز الدين عن دار الشروق، والتي تم دخولها مؤخراً، في القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية، المعروفة باسم "جائزة بوكر العربية" لعام 2021، بدأتُ رحلتي، التي أستطيع أن أصفها الآن بأنّها كانت رحلة هادئة، فيها من الدفء، ما أشعرني بالانسجام سريعاً مع أجوائها الروحيّة، وإن كانت لا تخلو من مفاجآتٍ عدّة، جعلتنى أُدرك أنّ هذه الرحلة القصيرة والمُوحية، لم يكن هدفها الأوحد هو المُتعة فحسب، وإنّما كان في إدراك مجموعة من المعاني الفكرية، المُتصلّة بين المرء وذاته، والتي تربطه بالكون الواسع، هادمة حدود الزمان والمكان.
بساتين البصرة.. قصة الاغتراب في تيه الزمن
"سأبحث عن الشيء في سواه، وأقتفي أثر ذاتي خارجها، لعلّني أقبض على لمحة منها في كل ما عداها". وجدت في رواية "بساتين البصرة" عالماً بديعاً، مزيجاً من الخيالات والأحلام المُتداخلة مع واقعٍ رتيب، سفراً إلى ماضٍ سحيق في بلادٍ ذات حضارة عظيمة، وعودة إلى زمن الألفية الجديدة، على أرضٍ أخرى، يملؤها الصخب والازدحام، ويكسو وجوه سُكّانها غربةٌ، لا يأنس معها أحدٌ من النّاس.
بين البصرة في العراق، وبين محافظتي القاهرة والمنيا في مصر، تتنازع روح "هشام خطّاب"، لا يعرف إلى أيهما ينتمي، أهو الشابّ الذي يعيش مع أمّهِ وحيداً بلا عائلة أو إرث، سوى العديد من كتب التراث القديمة، بلا وظيفة حقيقية، وبلا حبيبة تسكن إليها نفسه؟ أم هو "يزيد بن أبيه"، الخوّاص البصري، المُنعكف على نسج السلال والحُصران من خوص النّخل نهاراً، وعلى التعبُّد لله، والتضّرع إليه ليلاً، والمُتزوج من امرأةٍ فاتنة اسمها "مُجيبة"؟
لم يعرف هشام هل تنبعث روائح الياسمين، التى تُحيط به دوماً، من جسده فعلاً؟ أم أنّه "مضروبٌ بالوهم" كما اعتادت أمّه أن تخبره؟ "أعود ليقيني بأنّ الزمن نهرٌ سيّال، والمكان وهم. مكاننا الحقيقي موطن أرواحنا، وروحي عالقة هناك في المدينة القديمة".
وبين هشام المصري، ويزيد العراقي، وبفارق أكثر من ألفِ عامٍ، عرفتُ على مهلٍ، القصة الحزينة لبساتين البصرة. في بساتين البصرة، رواةٌ مُتعددون، وخطيئةٌ واحدة، قد تكون الرواية المُتعددة الرواة، كما في بساتين البصرة، مُربكة لبعض القُرّاء، ولكنّي وجدتُ نفسي أتنقّل بسلاسة بالغة، بين فصول الرواية التي يرويها أبطالها، على اختلاف شخوصهم، والزمن الذي يعيشون فيه.
أرى أنّه من الممتع دائماً أن تسمع القصة من وجهة نظر أطرافها جميعاً، كلّ على حدة، فحينها تبدو القصة مُختلفة تماماً عمّا قد تظنّها عليه، حتى وإن عاصرتها أنت بنفسك، هذا طبعاً بخلاف الأسرار التي يحملها كل امرئ منّا في قلبه، والتي قد تقلب بطبيعتها، حقيقة القصة رأساً على عقب.
في البداية، نتعرف على هشام، الذي يحكي قصته مع الأحلام التي يراها في منامه، والتي من بينها حلم غريب، ورد بالنّص في كتاب "تفسير الأحلام الكبير" لابن سيرين، وفيه تنزل الملائكة من السماء إلى الأرض، كى تلتقط الياسمين من البصرة. وهو الشيء الذي تم تفسيره في الكتاب، على أنّه دلالة على زوال عُلماء البصرة العِظام.
هذا الحُلم الذي ألقى بهشام، في قلب المدينة الأثرية الخالدة، مُسافراً عبر مئات السنين، بحثاً عن النسخة الأخرى من روحه، والمعروفة باسم "يزيد بن أبيه"، مُتأمّلاً أسواق البصرة، وبساتينها العامرة، وذلك قبل أن يلحق الخراب كل شيءٍ فيها.
ثم يأتي دور يزيد ليتحدث عن نفسه، في لغة مُختلفة عن لغة هشام، لغة عربية فخيمة كما يليق بطالب علمٍ في مجالس كبار المُفكرين أمثال الإمام الحسن البصري، وواصل بن عطاء، مؤسس فرقة المُعتزلة، الذي روى بنفسه، فصلاً قصيراً من فصول الرواية.
وبعدها يقصّ مالك بن عُدي النّسّاخ، ومُفسّر الأحلام، قصته مع رفيق عُمره "يزيد بن أبيه"، ويحكي عن خطيئته، التي أورثته ألماً عظيماً رافقهُ إلى مماته. "لا أكاد أُصدّق، أنّ هُنيهة زمنية مُنفلتة، بإمكانها تغيير حياة بأسرها، ونقل عابد زاهد، من خانة المؤمنين إلى خانة الكفار، أو إلى المنزلة بين المنزلتين. إنّ هذا مما لا يخطر على البال ولا تُدركه العقول".
وتظهر الأنثى في الرواية من خلال ثلاث نساء، "ليلى" والدة هشام، التي فارقت أهلها من أجل رجلٍ رحّال، لا يستقر في مكانٍ، فعاشت مع ابنهما الوحيد ناقمة على الدنيا، و"ميرفت" أو كما سمّاها هشام "بيلا"، صديقته، التى أحبها في وقتٍ من الأوقات، والتي لا تحمل هوية خاصة بها، وإنّما تتلوّن في كل مرّة بشخصية جديدة، حسبما يقتضي الأمر، وأخيراً "مُجيبة"، زوجة يزيد بن أبيه، المرأة التي كانت صالحة، حتى وجدت صُرة فيها من الجواهر والدنانير الكثير، فبان معدنها الفاسد الحقيقي، المُتخفّي وراء جمال ملامحها وحيائها البادي.
كل هؤلاء الذين رووا حكايتهم، ليسوا بملائكة ولا بشياطين، وإنّما هم بشر، زلّت أقدامهم، وارتكبوا نفس الخطيئة التي يرتكبها بنو آدم في كل يومٍ، وإلى أن تقوم الساعة.
اللغة.. الأجواء.. والمعنى الذي اكتمل بنهاية الرواية
"ياسمين في رأسي، ياسمين في جوفي وأحشائي، ياسمين يملأ الكون من حولي".
ومن ذا الذي يُمكنه أن يغفل عند الحديث عن رواية بساتين البصرة، عن جمال اللغة فيها، وحساسية معانيها، وتلاؤمها الذكيّ مع المُتحدث بها حسب موطنه، شخصيته، وخلفيته الاجتماعية؟
فبينما يروي هشام حكايته بلغة قارئ مثقف، واصفاً أحلامه وأفكاره المُتشابكة في دقةٍ وعذوبة، تُحادثه أمّه باللغة العامّية البسيطة، فيما تتذكر حياتها في الصعيد، مُتضمنة كلماتٍ مثل "الشبّورة"، و"طرح النيل"، و"العَوَجَاية" وغيرها.
"لطالما عرفت من أمها أنّ حبل سُرّة الطفل، يجب تركه عند صائغِ، أو في سوقٍ عامرة، جلباً للثروة أو الرزق، أو في مسجدٍ، جلباً للبركة ورواج الحال".
ويتغير الأمر تماماً حينما يعود الزمن بالوراء إلى البصرة، حيث فصاحة اللغة وبلاغة المعاني وفطنة التشبيهات.
"كل مخلوق جُبّل من قُماشةٍ تختلف عن غيره، وقماشتي اهترئت في غير موضع. لا أقصد بهذا -حاشا لله جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه- أن ثمة عيباً في خَلقي، أو أنّني كنت مُجبراً مُسيّراً، أعني فقط أنّي لم أُضيّع فرصة واتتني إضعاف قُماشة عقلي، وملئها بالثغرات والثقوب. بإرادتي ونزقي وعدم تعقّلي شققتُ طريقي، وغمرتها بالحصى والأشواك، فأنّى لي التشّكي من مشقّة المسير؟".
تباين اللغة وانسجامها مع الموضع الذي ذُكرت فيه، بهذا الشكل المُتقن أعطى للشخصيات أصالة حقيقية، كما صنعت التفاصيل الصغيرة الخاصة بكل زمنٍ وشخصية، أجواء مُتعدّدة فيها من سيريالة الأحلام، وكآبة الواقع، وتصوّف المؤمنين، وفساد الحاقدين، الطامعين فيما يملكه غيرهم من النّعم.
في نهاية بساتين البصرة، يترابط كل شيء، يتصل الماضي بالحاضر، تنقشع غيام التقوى الزائفة حينما تُحركّها الفتنة، ليظهر ما تحت جلود الجميع، قُماشتهم الحقيقية، التي كانت مخفيّة عنهم هم أنفسهم، ها هي تتبدّى لهم بأوضح ما يكون.
وصلت إلى نهاية الرواية، وأنا أشم من حولي شذرات الياسمين، التي كنت أحبّها قديماً، إلّا أنّني شعرت بانقباضة في قلبي هذه المرة، فشجرة الياسمين تآمرت على إخفاء جريمة بحق بريء، بعدما زرع المجرم شجرتها فوق جثة المغدور به، وهي أيضاً التي قال عنها ابن سيرين، إنّها تحمل بعضاً من اليأس في حروفها الأولى، لذا فهي تُنبئ عن فقدٍ عظيمٍ، قادم في الطريق.
ملأتني بساتين البصرة بحالةٍ من الشجن، وخرجت منها وأنا لم أُفارقها حقاً، أعتقد أنّي سأمكث فيها قليلاً، قبل أن تنزل الملائكة على أرضها، ويصير كل عظيمٍ فيها إلى زوالٍ.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.