"لا نعرف من هو أبو عبدالله الصغير".. كان هذا واحداً من الأجوبة التي تلقاها "عربي بوست" حينما وجّهنا هذا السؤال لبعض أبناء مدينة فاس وسط المغرب، فأغلب أبناء المدينة باستثناء المختصين والمولعين بالتاريخ لا يعرفون أن قبر آخر ملوك الأندلس يقع في مدينتهم، على عكس أضرحة عدد من الأولياء والصالحين التي يعرفها عامة الناس.
أبو عبدالله الصغير.. ملك ظُلم حياً وميتاً
في قلب مدينة فاس، وتحديداً في مصلى قريب "من باب الساكمة" يقع قبر محمد بن علي بن الأحمر، المعروف عند المؤرخين المغاربة بـ"بالزغبي"، أي المشؤوم، وعند الإسبان بالصغير، الذي حكم غرناطة في الفترة ما بين 1486 إلى 1492، وهي سنة سقوط غرناطة، وكان هو من وقَّع معاهدة تسليم عاصمة الأندلس بعد حوالي سنة كاملة من الحصار.
يقع القبر في قبة بُنيت على الطراز الأندلسي القديم، لكن قليلين يعرفون الأهمية التاريخية لهذا القبر، بسبب الإهمال الذي يعيشه، حيث تحول إلى مكان لرمي القمامة وتجمّع المنحرفين.
وبحسب حمزة الكتاني، باحث في تاريخ الأندلس، وعضو جمعية ذاكرة الأندلسيين المغاربة فإن "أبا عبدالله الصغير حينما توفي في فاس دُفن في تلة مقابلة للأندلس، وكأنه أراد أن يبقى مطلاً عليها، بعدما أُخرج منها عنوة، وجاء إلى بلاد المغرب التي أُهين فيها".
وعلى عكس الرواية المتداولة، والتي تُصور أبا عبدالله الصغير كملك جبان لم يدافع عن عاصمة ملكه وسلم مفاتيحها للقشتاليين، فإن حمزة الكتاني يؤكد أن الذي يتتبع تاريخ أبي عبدالله الصغير لا يمكن أن يصفه لا بالخيانة ولا بالتهاون، فقد كان يواجه عمه الثائر على حكمه، المعروف بالزغل، كما كان يواجه القشتاليين في الوقت نفسه، قبل أن يسلم عمه ملقا للإسبان، بينما ظل هو يقاوم إلى أن تيقن أن الاستمرار في المقاومة أصبح ضرباً من الانتحار، واضطر أن يناور، غير أنه قوبل بغدر من القشتاليين".
ويضيف الكتاني أن فترة حكم أبي عبدالله الصغير للأندلس اتسمت بالاضطراب والحروب المتتالية مع الجيش القشتالي، بزعامة الملك فيرناندو والملكة إيزابيلا الكاثوليكيين. وقد انهزم أبو عبدالله الصغير في الكثير من المعارك، وذلك لأن أحلافه الاستراتيجية كانت ضعيفة جداً، مشيراً في هذا الصدد إلى أن "المغرب كان يعيش على وقع اضطرابات سقوط الدولة المرينية وبداية ظهور الدولة الوطاسية، وهو ما حال دون تلقي أبي عبدالله الصغير الدعم الكافي لمواجهة القشتاليين".
وقد استنجد أبو عبدالله الصغير بحكام تونس ومصر والدولة العثمانية، لكن دون جدوى لبُعد الأرض والمسافة، فاضطر أن يقاوم وحده، خاصة بعدما استولى الإسبان على مالقة، وأبادوا سكانها.
وقد خشي أبو عبدالله الصغير أن يكون مصير غرناطة كمصير مالقة، لذلك اضطر أن يصالح الجيش مقابل حماية حقوق المسلمين وحرية شعائرهم وتنقلهم، وحقوق الأسرة المالكة. غير أنه لم تمر سنتان أو ثلاثٌ حتى انقلبت الملكة الكاثوليكية على المعاهدة، وقامت بتهجير أبي عبدالله الصغير إلى بعض القرى، ثم إلى المغرب. قبل أن تقوم بفرض التنصير على المسلمين وإلغاء اللغة العربية، وهو ما عُرف حينها بمحاكم التفتيش.
حينما عاد أبو عبدالله الصغير إلى المغرب استقر بفاس، وكان بيته معروفاً بباب الماكينة، وقيل إنه اعتُقل في القلعة الموجودة قبالة باب الماكينة، إلى أن توفي ودفن في المصلى القريب من "باب الساكمة" الآن، وهو الذي ينطلق منه حي المصلى.
حلم العودة للأندلس
ظلّ حلم العودة إلى الأندلس واسترجاعها يراود أبا عبدالله الصغير، لذلك سرعان ما انخرط في السياسة رفقة الآلاف من الأندلسيين الذين هُجروا معه، فأعلن دعمه للوطاسيين ضد السعديين، بعدما حصل على وعد منهم بتجهيز جيش مغربي كبير لاسترجاع الأندلس، بعد استتباب الأمر لهم، لكن الحظ لم يكن حليفهم، إذ استطاع السعديون هزيمة الوطاسيين بمساعدة العثمانيين.
وبحسب حمزة الكتاني فقد أظهر السعديون عداء كبيراً للأندلسيين، بل قاموا بعقد معاهدات مع الإسبان تمنع القيام بأي مقاومة جديدة لاسترداد الأندلس. كما اضطهدوا أبا عبدالله الصغير إلى أن توفي.
ويؤكد الكتاني أن وجود قبر أبي عبدالله الصغير في تلك التلة التي تطل على الأندلس يؤكده عدد من المؤرخين، من بينهم مؤرخ الأندلس أبو العباس أحمد بن محمد المقري التلمساني، في كتابه "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب"، وكذلك الإمام محمد بن جعفر الكتاني في كتابه "سلوة الأنفاس ومحادثة الأكياس بمن أقبر من العلماء والصلحاء بفاس".
ويبدو أن الظلم التاريخي الذي لحق أبا عبدالله الصغير واتهامه بخيانة الأندلسيين وتسليم عاصمتهم للإسبان لازمه حياً وميتاً، إذ إن الجهات الرسمية لم تعطِ لقبره أية أهمية على عكس قبور وأضرحة أخرى.
قبران في قبر واحد
هناك حقيقة أخرى، وهي أن بعض أهل فاس يسمون ضريح أبي عبدالله الصغير بقبة سيدي إبراهيم الشكداني، وهو أحد متصوفة مدينة فاس، عاش خلال حكم السلطان العلوي سيدي محمد بن عبدالله.
وبحسب حمزة الكتاني فإنه بعد نحو 200 سنة توفي أحد الأولياء، واسمه سيدي إبراهيم الشكداني، وقاموا بدفنه في الضريح نفسه، وأصبحت تلك القبة مشتهرة بقبة سيدي إبراهيم الشكداني، وهي لم تبنَ في زمنه، الذي كان في فترة السلطان سيدي محمد بن عبدالله، ولكنها قبة أندلسية قديمة. مضيفاً أن "قبر أبي عبدالله الصغير كان قد رُدم آنذاك ودفن فوقه سيدي إبراهيم الشكداني".
هل يعاد الاعتبار لآخر ملوك غرناطة؟
يعتبر الدستور المغربي الهوية الأندلسية رافداً من روافد الهوية المغربية، وهو ما دفع بعض أحفاد الأندلسيين إلى لفت الانتباه لضرورة الاعتناء بهذا التاريخ وإعادة الاعتبار لذاكرتهم.
ويؤكد حمزة الكتاني أن أبا عبدالله الصغير يجتمع فيه مفهوم الهوية الأندلسية بغض النظر عن قيمته وماذا فعل. فهو يعتبر بالنسبة للنشطاء الأندلسيين حلقة الوصل بين ما بعد سقوط غرناطة وما قبله.
وقال المتحدث: "كنا في جمعية ذاكرة الأندلسيين المغاربة قد قمنا بزيارة إلى ضريحه، ووجدناه في حالة مزرية للغاية، وقد رفعنا رسائل إلى الجهات المعنية، لكن دون جدوى".
ويقترح الكتاني ترميم ضريح أبي عبدالله الصغير، وأن تلحق به مؤسسة تعنى بحفظ الذاكرة الأندلسية في المغرب، مضيفاً أن "من شأن ذلك أن يجعل منه مزاراً سياحياً لكل القادمين من خارج المغرب، الذين يريدون التعرف على تاريخه وتاريخ الأندلس".
من جهته، يعتبر المؤرخ المغربي امحمد جبرون أن "أبا عبدالله من الشخصيات التاريخية المؤثرة، والذي يمكن أن يشكل مزاره نقطة جذب للسياح، خاصة الإسبان منهم، لكن من المؤسف أن هناك إهمالاً من المسؤولين، وعدم استثمار لهذا الموروث".
ويؤكد المتحدث أن أبا عبدالله الصغير، آخر ملوك الأندلس يُشكل ذاكرة مشتركة بين المغاربة وبين الإسبان، ويجب رد الاعتبار إلى مرقده، وفاء للذاكرة ولتاريخ الأندلس.