إذا لم تتنازل كاترينا سفورزا عن قلعتها وأراضيها، ستقوم قوات ابن البابا ألكسندر السادس بذبح أطفالها المحتجزين كرهائن.. لم تقابل كاترينا هذا التهديد بالدموع، بل وقفت بشموخ على أسوار قلعتها لتواجه الجيش الذي يحاصرها، رفعت تنورتها وصرخت: "اقتلوهم إن شئتم، لدي الوسائل لإنجاب المزيد.. لن ترغموني أبداً على الاستسلام".
تبدو قاسية ومتعنتة للغاية، لكنها مع ذلك واحدة من أبرز شخصيات عصر النهضة، فلنتعرف معاً على المرأة التي تحدت اثنين من باباوات الكنيسة الكاثوليكية على التوالي:
كاترينا سفورزا التي لا تعرف الاستسلام
حاربت كاترينا بكل ما أوتيت من قوة للحفاظ على أراضيها، وقلعتها "روكا دي رافالدينو" الواقعة في مدينة فورلي شمال روما، وبالرغم من أن قصة التنورة تلك قد تكون ملفقة فإنها شائعة بين الناس وتعكس شخصية كاترينا التي لا تعرف الاستسلام ولا ترتضي به.
يصنف المؤرخون كاترينا سفورزا بأنها واحدة من أهم الشخصيات الاستثنائية في عصر النهضة الإيطالية، ولم تتميز فقط بشراستها ودفاعها المستميت عن حقوقها، ووقوفها بوجه باباوات روما وأقوى العائلات الحاكمة آنذاك، بل عرفت بثقافتها كذلك وتفوقها في مجال الكيمياء.
تزوجت في العاشرة من عمرها
البابا سيكستوس الرابع كان رئيس الكنيسة الكاثوليكية وحاكم الولايات البابوية منذ عام 1471 حتى وفاته عام 1484. تضمنت إنجازاته كبابا بناء كنيسة سيستين وإنشاء أرشيفات الفاتيكان، كما كان راعياً للفنون. على الجانب الآخر أسس سيكستوس محاكم التفتيش الإسبانية، واشتهر بمحاباة أقاربه وتورط في مؤامرة لاغتيال حاكم فلورنسا.
حيث إن كاترينا المولودة عام 1463، هي الابنة غير الشرعية لدوق ميلانو غالياتسو ماريا سفورزا، وبالرغم من عدم شرعيتها فقد نشأت في منزل والدها وحظيت بالتعليم على قدم المساواة مع أخوتها الذكور، إذ درست في سن مبكرة التكتيكات العسكرية والأسلحة.
أما زوجها، جيرولامو رياريو، فقد كان لورداً لكل من مدينتي إيمولا وفورلي الواقعتين جنوب ميلانو، لذا كان من شأن هذا الزواج أن يوحد اثنتين من أبرز العائلات الإيطالية.
قضت كاترينا 4 سنوات في قلعة زوجها، لينتقل الاثنان إلى روما بعد ذلك، حيث تنجب كاترينا الكثير من الأطفال، وتحظى مع الوقت بمكانة تجعلها وسيطاً قوياً بين روما وميلانو.
دسائس رومانية
تسببت وفاة البابا سيكستوس الرابع عام 1484 ببداية عصر من الفوضى السياسية والدسائس التي لا تنتهي بين العائلات الإيطالية التي بدأت تتنافس فيما بينها للسيطرة على عرش الباباوية.
كان زوج كاترينا آنذاك في وضع محفوف بالمخاطر، فالعديد من العائلات بدأت تسعى للاستيلاء على أراضيه بعد وفاة خاله.
انطلق رياريو في حملة ضد هذه العائلات المتنافسة مخلفاً زوجته الحامل في شهرها السابع في روما، وساءت أوضاع رياريو الذي بات من الصعب عليه العودة إلى روما لتدعيم موقعه هناك، لكن زوجته الحامل قامت بالمهمة على أكمل وجه.
أمرت كاترينا قواتها بالاستيلاء على قلعة سانت أنجيلو في روما، مدعية أن البابا سيكستوس قد منح عائلتها حق السيطرة على القلعة قبل وفاته، وصرحت بأنها لن تتنازل عنها إلا للشخص الذي سيكون البابا التالي.
التأم شمل كاترينا مع زوجها مجدداً، ولم يغادر الزوجان روما إلا بعد الاعتراف بأن أراضي إيمولا وفورلي هي ملكهما بالكامل، بالإضافة إلى تعيين ريارو كقائد عام لقوات الفاتيكان.
كاترينا تتسلم زمام السلطة
بعد خروجهما منتصرين من روما، لم تتمتع كاترينا وزوجها بالاستقرار في قلعتهما في فورلي سوى 4 سنوات، ففي عام 1488 قتل ريارو على يد أنصار البابا الجديد، إنوسنت الثامن.
بعد وفاة زوجها، أثبتت كاترينا مهاراتها السياسية من خلال إدارة ممتلكاتها من قلعتها في فورلي، فقد كانت وصية على ابنها الأكبر أوتافيانو.
بخطوة ذكية، خفضت كاترينا الضرائب لكسب ولاء مواطنيها، وشكلت تحالفات سياسية مع جيرانها من خلال تزويج بناتها، كما تولت مهمة التدريب العسكري لجيشها.
حب عنيف وانتقام وحشي
وبعد بضعة أشهر من وفاة زوجها، تزوجت كاترينا سراً من شاب طموح يدعى جياكومو فو وأنجبت منه ابناً.
وقد كان حبها لجياكومو نقطة ضعفها الوحيدة، فقد نحت ابنها الأكبر أوتافيانو من السلطة ومنحت زوجها الشاب السيطرة على أراضيها، كما عينت أقاربه مسؤولين عن القلاع المدافعة عن المدينة.
لم يرُق كل ذلك لأنصار أوتافيانو الذين وجدوا أن أمه تسلب السلطة منه، فدبروا مؤامرة ناجحة لقتل زوج كاترينا الثاني في عام 1495.
أرملة للمرة الثانية، كسيرة القلب، مع ذلك لم تضعف كاترينا ونهضت من جديد، وكان أول ما فعلته هو الانتقام، فقامت بقتل قتلة زوجها وعائلاتهم كذلك، ثم تزوجت بعد مرور عامين من جيوفاني دي ميديشي، أحد أفراد عائلة فلورنسا القوية.
لكن كاترينا تصبح أرملة للمرة الثالثة بعد وفاة زوجها بعد إصابته بالتهاب رئوي، وفقاً لـ National Geographic.
تحدت قوات ابن البابا على حساب حياة أطفالها
في هذه الأثناء كان البابا ألكسندر السادس، من بورجيا، قد اعتلى عرش الباباوية، وبدأ بانتهاج سياسات توسعية بمساعدة ابنه تشيزري بورجا، دوق فالنتينوي.
استشعرت كاترينا الخطر، وبدأت على الفور بتوسيع دفاعاتها العسكرية، وتحسين أسلحتها، وإنشاء مخازن كبيرة من المواد الغذائية والذخيرة تحسباً لقيام بورجا بمحاولة للاستيلاء على أراضيها، وقد كانت على حق في ذلك.
فبعد أن حصل بورجا على دعم سياسي من ملك فرنسا الذي زوجه ابنته الأميرة شارلوت، ودعم مالي من والده البابا الذي عُرف بفساده، قام بورجا بالاستيلاء أولاً على أراضي بيزارو وتشيزينا وريميني وبعد ذلك فاينسا وأوربينو وسينيغاليا، ثم توجه إلى إيمولا وفورلي اللتين تحكمهما كاترينا.
كانت نتيجة المعركة محسومة لصالح بورجا الذي يملك عدة وعتاداً أقوى، مع ذلك قادت كاترينا الدفاع بنفسها على رأس أكثر من ألف جندي، وانتهى بها الحال محاصرة في قلعتها "روكا دي رافالدينو" عام 1499.
رفضت كاترينا عروض الاستسلام المتتابعة التي قدمها بورجا، وكانت إحداها على حساب حياة أطفالها المحتجزين كرهائن كما تقول الحكاية.
ولم تتمكن قوات بورجا من احتلال القلعة حتى عام 1500، حيث وقعت كاترينا بالأسر.
نهاية مسالمة
أرسلت كاترينا إلى روما حيث احتجزها البابا في فيلا جميلة بالقرب من المدينة، وأصر على معاملتها كضيفة شرف بسبب مرتبتها السابقة.
لكن الاهتمام الخاص الذي حظيت به لم يكبح روحها المتمردة، فحاولت الهرب عدة مرات حتى أرسلت في النهاية كسجينة إلى قلعة سانت أنجيلو (القلعة التي استولت عليها كاترينا قبل سنوات).
وبعد أن توسط ملك فرنسا للإفراج عنها، أطلق سراح كاترينا عام 1501 واستقرت في فيلا عائلية في فلورنسا.
وبعد وفاة البابا ألكسندر السادس حاولت استعادة أملاكها من البابا الجديد يوليوس الثاني، لكن سكان مدينتي فورلي وإيمولا اعترضوا على عودتها بعد ما قاسوه خلال الحصار الذي كان من الممكن أن يتفادوه لو كانت كاترينا أقل عناداً، فانتقل حكم المدينتين إلى أحد نبلاء الفاتيكان.
أمضت كاترينا ما تبقى من حياتها في دراسة الكيمياء، محاطة بأطفالها، حتى توفيت عام 1509 وهي في الـ46 من العمر بسبب إصابتها بالتهاب رئوي.