حين فتحتُ عيني على الدنيا، وشعرتُ أن لي غرفة مستقلة، وصرتُ أدرك الكلام وأفهمه، وجدتُّ مكتبةً ومكتباً في غرفتي، ودفاتر وكتباً، وأقلاماً وأوراقاً، اللون البني العتيق، رائحة الكتب مِن حولي، مجلات ماجد والعربي الصغير وميكي، وغيرها، دواوين شعر، وروايات، كتب لغة وفِكر، بالتأكيد وإن كنتُ أفتح ذلك كله بدافع الفضول، بالتأكيد لم أكن أفهم منه شيئاً، لكنّ شيئاً في داخلي كان يكبر كلما فتحت صفحة، يعدّ السطور، ويحسب الكلمات.
بين الجريدة والممشطة
أذكر أبي، في متجرنا سابقاً، يجلس أصحابه حوله، يناديني ويناولني الجريدة، يقول اقرأ، فأقرأ بين طفلٍ متوتر، وطفلٍ متكبر، يرى أنه محور الكون الذي حوله، ولم يكن مفهوم الكون عندي أكبر من مساحة محلّ الملابس الذي كان يملكه أبي، أواصل القراءة، وتنهال فوقي ثناءات أعمامي أصدقاء بابا، وأقف عند كلمة "الإسكندرية"، أقول لأبي إن الجريدة أهملت الهمزة، هل هي الإسكندرية أم الأسكندرية؟
في البيت يجلس أبي مع أصدقائه، يستضيفهم في المضيَفة، وأنا أشرد بخيالي، أريد أن أبهرهم، لأنني أحب ذلك الإطراء كأنني الولد المعجزة لديهم، أقول لأبي دون أن أعرف أبداً قبلها إنني صففت شعري بـ"الممشطة"، يطير بي فرحا، يقول كيف عرفتَ الكلمة، ولا أعرف، كانت ضربة حظ، وخُيّل إليّ أنني أخمن مفردات العامية بالفصحى، أربط بينهم، وصرتُ مختالاً طوال اليوم، أقص بطولتي على مَن حولي، أقول "عرفتها لوحدي".
قصيدة في دار العلوم
أوقظ أمي من سابع نومة لألقي عليها بيت شعرٍ كتبتُه، كان "شِعراً" بمقاييسي حينها، وكان وما زال وسيظل أجمل شِعرٍ في عين أمي، لأن أمي وإن كانت لم تتقن العَروض، ولا تعرف الوزن والقافية، فإنها تعرفني أنا.
"سلاماتٍ سلامات.. لكل محمد مات.. وكل محمدٍ آت.. إلى المفجوعة الثكلى.. تقبّل أوجه القتلى.. لأن القدس غالية.. بذلنا روحنا الأغلى.. بذلنا الذات"
بصوتٍ مسرسع في حفلٍ لفلسطين بكلية دار العلوم، جامعة القاهرة، طفلٌ يقف ويلقي قصيدةً للشاعر عبدالعزيز جويدة، عن طفلٍ استشهد في عمرٍ مقارب، اسمه محمد الدرة، وذلك الطفل يوسف يقف، يكاد يقف وسط هذا التوتر العجيب، وقد اصطحَبته واحدة من الأقارب تدرس في الكلية إلى الحفل، وكانت الفقرة الأولى التي أؤديها في حياتي، القصيدة الأولى التي ألقيها أمام أحدٍ غير أبي وأمي.
في بيت جدي يجتمع أخوالي وخالاتي وأمي والصغار والصغيرات، وأنا صغيرٌ ينأى بنفسه عن مجلس العيال، وينزوي في غرفة خالته الفارغة من الضجيج، ويجلس ليكتب قصيدة أخرى، ذلك الطفل الذي لم يتجاوز الثامنة من عمره، يبدو كأنه يصنع شيئاً ذا قيمة.
من سبيستون إلى امتحان الثانوية العامة
أمام سبيستون قضيت نصف عمري، أجلس فاغرا فاهي، تسخر أمي من فتح فمي على آخره، تضحك بشدة من منظري، وأنا مشغول في وادٍ آخر، كأن اللغة كانت تخزّن نفسها في ذاكرتي، وتقسم الكلمات في ذهني، وتصنع في قلبي شيئاً عجيباً، يجعلني مرتبطاً بها إلى هذه الدرجة.
حصة التعبير في المرحلة الابتدائية، مرت السنوات وصارت حصة الإنشاء في الإعدادية، بالأزهر الشريف، صار البيت قصيدة من خمسين بيتاً، وصارت الجملة موضوعاً كاملاً، وأصبح سؤال التعبير هو الجزء المفضل في امتحان اللغة العربية، وظلت هذه العادة حتى الامتحان الأخير في التعليم الأساسي، وبآخر عهدي مع حصص الإنشاء وأسئلته كان سؤال التعبير هو المفضل في امتحان اللغة العربية بالصف الثالث الثانوي، تجاوزت الامتحان بـ79.5 من 80، وحزنتُ لأن نصف الدرجة التي ضاعت مني كانت في التعبير، لأني لم أخطئ بفضل الله في بقية الأسئلة، غضبت من المصحح، قلتُ في نفسي مَن يظن نفسه ليقيم التعبير أصلاً؟ هذا "تعبير" يا رجل!
مررتُ بتجارب أثقلتني فصقَلتني، على مرارتها وضعت حلاوةً في لساني، يقولون ذلك، لم أقل شيئاً إلا ما أكتب، أنقل عن نفسي حيناً وعن الناس حيناً، أكتب، وأستمر في الكتابة، والطفل الذي كان يحسب الكلمات ويعد السطور ما زال يكبر داخلي.
جمرة في نار
التجارب هي محرك الكتابة لأي إنسان، وبداخل كل كاتبٍ قصة إن عاش في قبر أو عاش في قصر، خلفية لا يعرفها الناس عنها، معانٍ يعيش معها في صراع، وحبكة في كل تفصيلة من حياته، لا تكاد تفارقه، وما يراه الناس من حبكات في الروايات ليست إلا قليلاً مما يعيشه الأبطال أنفسهم، في حيواتهم الخاصة بعيداً عن الحروف.
معارك خاصة خضتها في حياتي، أفخر بها، وممتن لها، بعضها يعرفه الناس وكثير منها لا يعرفه إلا أنا أو من أحبهم، أقرب الأقربين حولي، وأنظر فأجد الطفل نفسه يكبر، يجيد مسكة القلم أكثر، يقبض يده على القلم الرصاص فيخرج كلمات كالرصاص، وأراه يفهم فيحمل فوق عاتقه قضية تصير محوراً في كتاباته، وأراه يتعقل فينصح بحكمةٍ حينا، وأراه يندفع فيثور بغشَم أحياناً، لكنه على كل حالٍ يصير إنساناً له قيمة، وقيمته كلها فيما يكتبه.
فضل الوحدة
مضت بي السنوات وعشتُ أثقلها وحيداً، وأحسب أن للوحدة فضلاً كبيراً، أعطتني بصيرة وإن سلبت مني عيوناً، غرست فيّ شوقاً إلى كل شيء، صرتُ جمرةً في نار، لا أكف عن الحركة ولا الحرقة، أشعر بغصةٍ في قلبي، جهنم مشتعلة في صدري، قرحة في جوفي، تجعل الكلام أمراً ضرورياً وحاجةً ملحة، سواء قلتُ الكلمات بانتظام، أو حتى تقيأتُها في ألم.
عشتُ وحدي فسكنتُ أوراقي، لم أجد حولي أحداً، لكن وجدت ورقةً وقلماً، أنظر فلا أجد في الغرفة غيري، فتختلط عليّ الغرفة والغربة، كلتاهما بمعنى واحد، الشارع غربة، والغرفة غربة، والبيت فندق لا ترى فيه النزيلَ نفسَه مرتين، وإن كنتَ ترى نفسك ألف مرةٍ كل يومٍ في المرآة.
تنهيدة ورسائل
كان الثقل الذي في صدري يوحي لي بـ"تنهيدة" طويلة، تنهيدة في ثلاث مئة صفحةٍ ويزيد، توليفة من المشاعر المختلطة، كوكتيل حب وكره، شوق وملل، بكاء وتبلد، تأثر ولا مبالاة، وطن وغربة، حياة وموت، كان ذلك الخلاط الذي عصرني، ضربني في جدرانه ألف مرة، مزق أحشائي بسكينه ألف قطعة، فحُقَّ لي أن أقول "آه" في ثلاث مئة صفحة، ولا أظنها تكفي، لولا دار النشر، ولا أظنها انتهت، لولا الخوف من أن يمل القارئ فيشتمني.
وقبل تنهيدتي تلك، روايةٌ طويلةٌ حبسَها حابس، فلم تخرج إلى النور، لكنها قد تخرج يوماً ما. ومن ألمي الشخصي إلى آلامٍ أحسبها شخصيةً جداً وإن كانت تخص أناساً غيري، السيدة التي تبيع المناديل تخصني، وماسح الأحذية، والكفيف، وبائعة الورد، والخردجي، والجندي الذي استشهد في الحرب، والسيدة التي غرقت في العبارة، والرجل الذي احترق في قطار الصعيد، والشاب الذي ذُبح في الاستاد، والمطلقة والأرملة والمغترب، والمكافح والمحارب والمثابر، المتوحد والمحبط والمكتئب والمريض، المحب والمشتاق والبائس واليائس، كل الناس يخصونني، هم جزء مني في لحظة ما في حياتي.
فخرجت "رسائل سقطت من ساعي البريد"، والتقطتها أنا، وكتبتها، وأكاد أقول سمعتها من أصحابها، لولا أن الناس سيتهمونني بالجنون، ولن يصدقوا أني قابلتُ مثلاً جندياً استشهد قبل ميلادي بثلاثين سنة، لأني بالفعل لم أقابله، وبيني وبين نفسي أشعر أنني بالفعل قابلتُه، وقابلتُ جميع الذين كتبوا الرسائل، ألتقي بهم كل صباح، في المترو، أسفل الكباري، فوق الطرق بين السيارات.
بين معاركي
وبين معاركي ما زلتُ متمسكاً برمحي، أضرب به وأذهب لألتقطه من جديد، بين عملٍ مضنٍ ودراسة طال أمدها، وأشغال أخرى، أقاوم الانصهار، أحاول بينما تسير بي الحافلة مسرعةً أن أبطئ داخلي، يصيبني ذلك بالدوخة نوعاً ما، ويُشعرني بإرهاق ثقيل، لكنه يمنحني إحساساً بأني ما زلتُ على قيد الحياة، أكتب.
وبينما تقرأ مقالي هذا يسعدني أن أخبرك بسرٍّ اكتشفته قدراً، أن هذا تقريباً هو المقال رقم 100، بعونٍ من الله وفضل كبير، شاعراً بفخري لأول مرةٍ لعمري، لثوانٍ معدودة قبل أن أعود معاتباً نفسي، أقول إن الطيب صالح حين كتب موسم الهجرة إلى الشمال كان في مثل عمرك، فماذا كتبت من وحي الهجرة، وماذا حصدت من غربتك في الشمال؟ وغسان كتب رجالاً في الشمس، فماذا كتبتَ يا رجلاً قوّرَت الشمس رأسه؟ وأحمد الله على شعوري بالتوبيخ الدائم، الذي يجعلني أواصل الكتابة.
على أمل
أكتب هذا الآن ولا أعلم ما تحمله الأيام، لكن على أملٍ أن أعودَ إليه وأقول كم كنتَ حالِماً يا ولد، وكم كنت صادقاً في حلمك، وأن يقول الناس حين يقرأون هذا بعد زمنٍ طويل، أهو هو؟ ذلك الذي اقتُبست من كلماته وصية شاب مات وهو يقاتل، وخُطت من قصائده أبياتٌ على البيوت، واتخذت من رواياته عبارات على المعابر، ورُسمت من مقالاته جداريات على الجدران، أهو هو؟ ذلك الرجل الذي روى عن ميلاد بين مكتبةٍ ومكتب، واليوم نزفه إلى قبره حاملين كتاباته التي قُتل في سبيلها بشرف.
على أملٍ.. في نهاية طريقي من غرفتي إلى غربتي، ومن محبرتي إلى مقبرتي، أن ألقى الله ذات يومٍ، تحملني كلماتي فوق ظهرها، ولستُ أحمل كلماتي فوق ظهري، وأن يكون صدري واسعاً فسيحاً، معبأً بالرصاص، وبالأقلام الرصاص.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.