لم يكن نيتشه أول من كتب عن موت الإله لفظياً كما بدر في ذهنك الآن بجملته المشهورة، بل إن الموضوع أقدم من ذلك يعود إلى "مارتن لوثر" الألماني في القرن السادس عشر، حين كان في قمة إحباطه، وكان يرتدي دوماً الملابس الجنائزية، فقالت له زوجته: "لابد أن الإله قد مات، بما أنك تتصرف بتلك الطريقة المحبطة"، ففهم حينها مارتن أن ما تقصده زوجته هو أنه لا داعي للإحباط مادام الإله الذي يعبده حياً.
حتى أتى هيجل في القرن التاسع عشر وقرر مناقشة مسألة موت الإله وتأثيرها على المجتمع، وحينها نقلت الجملة من شكلها الإطار المسيحي الذي تحدث عنه مارتن لوثر إلى جزء من الفلسفة العالمية والنظريات الاجتماعية لحركة المثاليين الفلسفية، ومن بعدها صارت الجملة تستخدم مع الكثير من الفلاسفة أمثال شوبنهاور ونيتشه وغيرهما الكثير.
وكان لنجيب محفوظ مساهمة لا يمكن نكرانها في رواية أولاد حارتنا حين جعل بطل الرواية الأخير "عرفة" يقتل الجبلاوي والذي يقول البعض إنه يرمز في الرواية إلى "الإله"، ولكن ماذا كان يمثل عرفة؟ على عكس أبطال الرواية الذين قيل إنهم يرمزون إلى الأنبياء وأخذوا من صفاتهم، كان "عرفة" رجلاً عادياً ومخادعاً، وكان لديه بعض الحيل الجيدة والجديدة على زمنه.
إذا عمقنا النظر يمكننا أن نرى أن عرفة هو العلم والتطور التكنولوجي الحتمي الذي نعيشه، ولكن هل تقتل التكنولوجيا فكرة الإله الخالق حقاً؟ دعنا نخرج من هذا الجدال فالتكنولوجيا ليست خصمنا هنا كما يبدو ظاهرياً، ولكني أرى أن من قتل الإله عمداً هو الإنسان، أو كما قال نيتشه "أُعلن موت الإله، ونحن الذين قتلناه".
كيف قتلنا الإله؟
قتل الإنسان الإله حين نفى عنه القدسية باسم الحرية. تحول كل شيء بعدها، فأصبحتَ لا تستطيع أن تدافع عن دينك أمام من يسبه مثلاً على أساس أن الإنسان حر في انتقاد أي شيء حتى الإله ذاته، ثم تحركنا أكثر نحو هذا، وصار الإنسان يعبد نفسه. لا تتعجب من تلك الجملة رجاءً فكر فيها مرة أخرى، العبادات ليست بالضرورة تلاوات وقرابين، بعض الديانات صلاتها الدعاء، والبعض صلاتها التبجيل.
حسناً لننظر من نبجل الآن؛ نحن لا نبجل إلا أنفسنا في تلك الأوقات، بعد أن كان الكون وحياتنا تدور حول عبادة إله بعينه وفق ديانة ثابتة ونعيش حياتنا من أجل اتباع تلك التعاليم لنفوز بالجنة في نهاية المطاف، أصبح الكون كله يدور حولنا نحن، حول كل فرد بعينه، لا يرى في العالم سوى أطماعه وأحلامه.
أصبحنا نقدس أشياءنا لأننا نستخدمها، ونقدس أفكارنا نحن، أصبحنا بلا شريعة واضحة، نحول القوانين والأعراف والعادات وفقاً لما هي مصالحنا الآن، متناسين أننا بشر تتغير مصالحنا وتتقلب نفوسنا بين الخير والشر.
بعد قتل الإله..
ماذا بعد أن قتلناه بأيدينا؟ للأسف اجعلني أقول كلمتي التي أشتهر بها بين أصدقائي "لا بعد"، حقاً لا بعد، سوف نتمادى أكثر في عبادة أنفسنا وكل يوم نخلق حروباً مثل حروب آلهة الأوليمب، لن يخرج منها فائز، نشن الحروب ونقتل بعضنا بعضاً حرفياً أو مجازاً بكلماتنا.
وينسحق من ينسحق باسم حرية الإنسان، متناسين مدى الحرية ومقدارها وتأثرها.
حتى نصل إلى قدر ما نصل من أحلامنا ثم نموت، نموت هكذا بمنتهى البساطة، فالموت واضح مثل الأبيض، بسيط كماء، ولكن لا رادع له.
دائرة الحياة..
كما يقولون: "الدائرة هي الشكل الهندسي الأكثر كمالاً مثلما قال فلاسفة الإغريق القدامى". في الدائرة تعود دائماً إلى نفس النقطة مهما كانت قوة سيرك وسرعتها، بل على العكس كلما سرت أسرع عدت أسرع.
طبقاً للديانات الإبراهيمية نحن نزلنا من السماء نعبد إلهاً واحداً، ثم تشتت الناس وعبدوا إلهاً آخر غير خالقهم، وفي كل مرة يعود الناس إلى نفس النقطة بنبي أو رسول، ولكن بعد عصر الأنبياء متى سنعود إلى نفس النقطة؟
أظن أن هذا هو محور الاختبار الذي تدور حوله الديانات جميعها سماوية كانت أو صُنعت بأيدي البشر، وأظن أن الدائرة ستكتمل إما بالموت الفردي لكل شخص أو بالنهاية الحتمية للكون الذي نعرفه.
لذلك تفقّد مكانك جيداً في الدائرة دوماً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.