رسالة إلى غوته.. ما الحقيقة؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/04/05 الساعة 10:10 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/04/05 الساعة 11:22 بتوقيت غرينتش
الأديب الألماني يوهان غوته (1749-1832)/ مواقع التواصل

 عزيزي غوته كلما قرأت لك اجتاحني طوفان من الأسئلة، كلماتك تخلق إعصاراً من الأفكار يفتك بي ويا لخشيتي من ذلك، لربما كانت يا عزيزي أسوأ الأفكار تلك التي تحضر دونما إنذار، كطفل ينمو في رحم العقل دونما إدراك، يأتي بغير تخطيط، يربك صاحبه ويأسره، وكأي جنين يغري حامله بمزيد من النهم الفكري الذي يعجبه طعمه حتى يتغذى عليه وإن لم يكن مفيداً لجسده النامي، ومتى تسلم العقل المسكين لجنين فكرته وغذاه كبر وبات ثقيلاً كعملاق لا بد له من مخاض.

ثقل وجوده بالعقل كفيل بولادة مبتسرة، تسفر عن فكرة قبل تمام نضج التكوين رغم اكتمال الوزن، كطفل كبير الحجم مشوّه ناقص أجوف، يفتقر لمبررات الحياة إلا أن صاحبه لن يلقي به إلى الفناء ولن يترك جنين عقله في التابوت فلا أصعب من ثقل الأفكار إلا توديعها في كفن.

أظن يا عزيزي أن صاحب الفكرة سيلتصق بها أكثر وأكثر، سيبحث كأم بائسة عن علاج لتشوهه، يحاول صقله وإصلاحه، وكلما طال الوقت زاد التعلق وبات الشخص وفكرته شيئاً واحداً. صارت الفكرة تعريفه وهويته، كيانه وحقيقته، سيطر عليه عوارها عوضاً على أن يصلح كمال عقله نقصها.

أعتقد يا عزيزي أن أفكارنا مهما كانت تافهة متى عاملناها بعاطفة أضحت أبناءنا وليس في ذلك عيب، لكن الخطر كل الخطر في استعجال نضجها، أو تغذيتها تغذية خاطئة، وفي النهاية في تبنيها بعاطفة غير قابلة للنقد واعتقاد صوابيتها التام.

ليست الفكرة بكبرها أو ثقل وزنها، ولكن بمنطقيتها وقابليتها للمعيشة دونما مساندة مستميتة من صاحبها.

لربما كان هذا سبب ذبول الأفكار مع الوقت رغم ثقل مكانتها وقت ولادتها، على العكس من أفكار أخرى تظل موجودة باقية متى بقيت الحياة، تولد من عقل صاحبها لتسكن الجين البشري فتغدوا موروثة مع كل جيل حتى ولو كانت خاطئة، فالانتخاب البشري للأفكار لا يعني دائماً صوابية الاختيار بقدر ما يعني قابلية الأفكار للاستمرار!

وقابلية الاستمرار لا تعني إلا مواءمة الحال وتحقق سبيل انتشار تلك الأفكار.

لذلك يا عزيزي أخشى كثيراً من بذور الأفكار الشاردة مجهولة النسب، أذهل عنها نفسي وأتغاضى عن بريقها علني أنسى وهجها قبل أن تزهر، فلا أسوأ من زهرة خشخاش تزهر متخفية في حقل لافندر، كآفة مسكرة مغيبة للعقول تتنكر في ثوب قديسة.

إن اعتنى بها صاحبها أفسدته وأسكرت غيره، فليس كل الزهر سواء.

أعتقد يا عزيزي أن الفكر يشبه الزهر وأن الأهم من الاعتناء بالزهر أو بالفكر هو حسن اختياره وضمان منشئه، لكن وحتى إن اعتنينا به هل يعيش أبد الدهر؟ وهل أبديّته دليل على صوابيته؟

أجبني عزيزي غوته فأنت الذي ما ترك مجال فكر إلا زاره أو باب سؤال إلا طرقه، أجبني فأنا لا أعلم.

لا أعلم لكني كما أخبرتك في كثير من الأحيان أهرب من بذرة الفكر وشذى زهره خوفاً من أسرها لي.

أتراني سأقدر على السيطرة على أفكاري سيطرة كاملة.

أن أكون أمينة في نقدها وفي تنقيتها واقتلاع الفاسد منها قبل ازدهاره.

أترانا كجنس بشري قادرين على تعطيل عقولنا ولو بعض الوقت؟ أترانا قادرين على الهرب من السؤال إن أدركنا بذور الشر والفساد القابع في إجابته؟

أم أن إغراء الإجابة سيكون أقوى؟

هل نستطيع ذلك قبل أن يولد المسخ ويكبر ويغدو مع مرور الزمن شيئاً مقدساً؟

على ما يبدو يا عزيزي ما يكسب الكثير من الأفكار قدسيتها ليس حقيقتها، ففي كثير من الأحيان تكون مسخاً ولكنه مسخ متصالح مع باقي الأمور الحياتية للإنسان.

فأي غباء ذلك؟ وأي هراء يسكننا حين نتحدث بثقة مفرطة عن صوابية أفكارنا وبنات عقولنا، فقط هي صائبة لأننا مفتونون بها، سعداء بحضورها، كونها مثبتة ولا تتعارض ومسلماتنا السابقة.

فهل الإثبات المنطقي للفكرة وحده دليل على الصوابية؟ وإن كان كذلك هل كل الأفكار الصائبة علمياً أفكار حقيقية؟ أم تراها إثباتاً عملياً للوهم؟ وإن كان الأمر كذلك فما الحقيقة يا عزيزي؟

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

سارة عبدالله
طبيبة مصرية وصانعة محتوى
مهتمة بالنقد الأدبي وكتابة السيناريو وعلوم الاجتماع
تحميل المزيد