دائماً ما يشار إلى روميو وجوليت من التراث الغربي عند الحديث عن قصص الحب الملحميّة، أو حتّى عن قيس وليلى من التراث العربي القديم. وغير بعيد عن القصتين السابقتين قصة ممو وزين أيضاً، التي وصلت إلى أقصى مراحل الدراما، حيث إنّ قبر العاشقين ما زال موجوداً حتى الآن في جنوب تركيا، حيث كتبها الشاعر الكردي الأشهر أحمد الخاني في 2661 بيتاً شعرياً!
أحمد الخاني.. أول من ألّف معجماً عربياً بالكردية
يعتبر أحمد الخاني، كاتب هذه الملحمة الشعرية، أمير شعراء الأكراد، ويعتبره البعض ثاني أهم شاعر في منطقة الأناضول وإيران بعد الفردوسي، كاتب ملحمة الشاهنامة الفارسيّة.
وُلد أحمد الخاني عام 1650 في قرية خان، التابعة لولاية حكاري في جنوب تركيا الحالية. في فترةٍ كان الصراع الصفوي العثماني على أشده، وفي هذه الأجواء كانت هناك بعض الإمارات الكردية في المناطق الحدودية بين الإمبراطوريتين الواسعتين.
درس أحمد الخاني العلوم الإسلامية والفلسفة، وأتقن اللغات العربية والعثمانية والفارسية، إضافةً إلى لغته الأم: الكردية. وتنوّعت كتاباته ما بين الأدب والفلسفة والكتب الشرعية، فقد ألّف بالكردية كتاب "تفسير مبادئ الإسلام"، وقد نادى بضرورة تعلُّم الأكراد اللغة العربية لأنها لغة الإسلام.
وقد انعكس اهتمامه باللغة العربية والإسلام عندما قرر تأليف قاموس بالكردية والعربية للأطفال الأكراد، وهو أحد أشهر مؤلفاته، ويُعرف باسم "نوبهار بجوكان"، وتعني "ربيع الأطفال الدائم". وهو أحد أشهر منتجات الأدب التركي، وقد احتفت به تركيا، وقررت تشييد متحف خاص يخلّد ذكراه بمنطقة دوغو بايزيد عام 2015.
هذا البعد الإسلامي في شخصية وكتابات أحمد الخاني لم يمنعه من تخليد قصة العشق الملتهبة تلك بين الأميرة زين، وحبيبها الشجاع ممو، اللذين لم تكتمل قصتهما إلا بالموت حبّاً وعشقاً.
ممو وزين.. ملحمة العشق في القرن الرابع عشر
بدأت أحداث القصة التي كتبها أحمد الخاني في 2661 بيتاً شعرياً عام 1393، ومكان الأحداث هو قصة الأمير الكردي زين الدين الذي كان يحكم منطقة جزيرة بوتان، أو كما تعرف بجزيرة ابن عُمر، وهي بلدة من ولاية شرناق التركية الحالية في منطقة جنوب شرق الأناضول.
كان الأمير زين الدين حاكماً لهذه الجزيرة، ضمن حِزام الإمارات الكردية والتركية المنتشرة في ذلك الوقت في الأناضول، وقد كانت الدولة العثمانية أحد إمارات الحدود تلك مع الدولة البيزنطية، حتّى غلبتها لاحقاً وأصبحت الدولة العثمانية التي نعرفها.
في أحد أعياد النيروز (عيد الربيع عند الفرس والأكراد) تنكّرت أختا الأمير زين الدين، الأميرتان "ستي" وشقيقتها الصغرى "زين" في زيّ رجلين. كانتا تريدان الخروج إلى الاحتفال لتبحثا عن فارس الأحلام بعيداً عن أسوار القصر.
وبينما هما عائدتين وجدتا جاريتين تسيران بخفة ورشاقة نحوهما، وما إن شاهدا بعضهما البعض حتّى غابت هاتان الجاريتان عن الوعي، استغربت الأميرتان، لكنّهما أرادتا معرفة سبب هذا الموقف، فتركت كل واحدةٍ منهما خاتمها في يد إحدى الجاريتين، لتتمكنا من العثور عليهما لاحقاً.
كانت الجاريتان في الحقيقة شابين تنكرا في زي جاريتين أيضاً، ليشاهدا الأميرتين اللتين كان صيتهما ذائعاً في كل أنحاء الإمارة. كان هذان الشابان هما "ممو" ابن كاتب الديوان وصديقه تاج الدين. كان تاج الدين ابناً للوزير، وهو بهذا من الطبقة العليا في الإمارة، بينما صديقه ممو كان من طبقةٍ اجتماعيةٍ أقل، باعتباره ابن كاتب الديوان ليس أكثر.
عندما استيقظا وجدا الخاتمين، الأول منقوشٌ عليه اسم "ستي"، وهو من نصيب تاج الدين، والآخر منقوش عليه اسم "زين"، وهو من نصيب ممو، لكن كيف لهما أن يبلغا الأميرتين بعد كل هذا؟ فليس لديهما سوى خاتمين فقط.
لكنّ الأميرتين أيضاً أرادتا أن تصلا لهاتين "الجاريتين" لتفهما لماذا غاب وعيهما عندما شاهدا الأميرتين؟! بدأت حياة الأميرتين تتغيّر، حتى انتبهت عرافة القصر لهذا التغيُّر فسالتهما، وعندما قصا عليها القصة أخبرتهما بأنّهما غالباً قد توهمتا ذلك، لكنّ الأميرتين أخبرتاها أنّ خاتميهما الآن مع هاتين الجاريتين.
هنا بدأت العرافة تبحث وتبحث وتجوب البلاد، قائلةً إنّها تشفي من آلام النفس والبدن، حتّى وصلت للشابين.
ممو وزين.. بداية المأساة
وصلت العرافة العجوز أخيراً إلى تاج الدين وممو، فقد كان الشابان الآن يذوقان آلام العشق وتباريح الحبّ. وعندما قابلتهما عرفت أنّهما هما الجاريتان اللتان تنكرتا وشاهدتا الأميرتين. عندها أخبراها بالقصة، علمت سبب اضطراب حياة الأميرتين والشابين معاً.
أعطى تاج الدين خاتم ستي للعرافة، وطلب منها أن ترسل تحياته للأميرة، وأنه يريد أن يتزوجها، على العكس من ممو، الذين كان يعلم صعوبة مثل هذه الخطوة، لأنه من طبقةٍ اجتماعيةٍ أدنى كثيراً من أن يتزوج أخت الأمير.
تزوّج تاج الدين من ستي على أمل أن يجعله ذلك أقرب من الأمير، فيساعده ذلك في أن يسهّل زواج ممو من حبيبته زين، لكنّ الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن، خصوصاً إذا كان الرجل من طبقةٍ اجتماعيةٍ أدنى من طبقة محبوبته.
على جانب تاج الدين كان هناك حاجب الأمير المدعو "بكو"، وهو فنان أيضاً كان يريد أن يتزوّج من زين. علم بكو بما يريد تاج الدين أن يفعله بتسهيل زواج زين من ممو، وهنا بدأ في المؤامرات.
بعدما نسج بكو العديد من المؤامرات أوغر صدر الأمير زين الدين، وأخبره أنّ تاج الدين يكثر من حلفائه في الإمارة، وخطط للاستيلاء على السلطة، وأنه من أجل ذلك يخطط لتزويج الأميرة زين من صديقه المقرب ممو، وهنا أقسم الأمير ألا يزوج أخته الصغرى من ممو أبداً.
اعتزلت زين الناس، وانعزلت في غرفتها، وفقدت صحتها، وأصبحت قليلة الكلام كثيرة البكاء، وراحت قوى ممو، أصبح ضعيفاً يسير في الجبال والطرقات شارداً، ينشد الأشعار ويبكي.
ظلّ بكو يوغر صدر الأمير على تاج الدين وصديقه ممو، وفي إحدى الليالي أخبره بأنّ قصة حب ممو وزين منتشرة في أرجاء الإمارة، طالبه الأمير بالدليل على ادعاءاته، فاقترح عليه أن ينازل ممو في مباراة شطرنج.
طلب الأمير من ممو أن يلعبا الشطرنج معاً بشرطٍ واحد: أن يفعل الخاسر أياً ما يطلبه منه المنتصر. رتّب بكو أن يجلس ممو أمام النافذة، وما إن شاهد الأميرة زين حتّى راح تركيزه وخسر مراراً أمام الأمير، الذي طلب منه أن يحدثه عن "فتاة أحلامه".
لم يستطع ممو أن يجيب، استفزه بكو قائلاً إنّ محبوبته جارية قبيحة، وهنا انفعل ممو وحكى أنّ حبيبته من عائلةٍ أصيلة لا ينازعها أحدٌ في النسب، لأنّها أميرة جزيرة بوتان.
كانت بقية القصة معروفة: وضع ممو في السجن، وزادت حياة زين وحشةً وقهراً وضيقاً.
النهاية مأساوية كالبداية تماماً
بعد مرور عام قضاه ممو في السجن، وقضته زين في البكاء والعزله، وبعد رفض الأمير مراراً للوساطات التي ترغب في العفو عن ممو، زار الأمير زين الدين أخته زين في جناحها. صدم الأمير عندما رأى أخته، هزيلة، نحفت وذبلت، وراحت صحتها، وهنا قرر أن يعفو عن ممو الذين كان يصارع الموت في زنزانته.
حملها زين الدين إلى حبيبها ممو، وأقسم أن يزوجهما حالما تتحسّن صحتها، لكنّه لم يكن يعلم أنّ ممو يصارع الموت أيضاً. عندما شاهد ممو زين ظنّ نفسه يتخيّلها قبل الموت، لكنّهما جلسا معاً وتحدثا بصعوبةٍ بالغة، قبل أن يفارق الحياة مبتسماً لأنّ الحياة جادت له بلقاء زين أخيراً.
فارقت زين الحياة في الليلة نفسها أسفاً وحزناً على حبيبها ممو، وعندما علم تاج الدين بوفاة صديقه في السجن قتل بكو في ثورة غضبه.
وقد دفن ممو وزين في قبرين متجاورين، تخليداً لقصة عشقهما، كما يقال إنّ بكو قد دفن تحت قدميهما ليلعنه كلّ من يزور القبرين في جزيرة بوتان.