لقد رحلت البلاد مجدداً، خسرناها، لقد تيتمنا مرة أخرى، لم يكن عمر البرغوثي مجرد فلسطيني عابر على هذه الأرض، وليس نفراً بسيطاً في هذا الوطن المُحتل، البرغوثي رجل صلب عنيد مقاتل وشجاع، لم تهزمه سنوات طويلة أمضاها في سجون الاحتلال فاقت ربع قرن، ولكن كورونا لم تُبقِ ولم تَذَر، كل يوم منذ فقده هو يوم الحزن بوفاة البرغوثيّ عمر، أبانا في العز والكرامة، جبهتنا الصامدة في وجه الظلم، صوت البندقية والمقاومة، رحل تاركاً خلفه شعباً يبكيه وينتحب على فقده، شعباً يعيش الضياع منذ 70 عاماً، وما زال يعيش الفقدان المستمر.
رحل عمر البرغوثي العنيد، الفارس الهمام، رحل بعد مسيرة جهاد أمضاها في سبيل الله، سلسلة تضحيات قدمها فداء للوطن استمرت حتى أنفاسه الأخيرة، فهو الأسير ووالد الأسير، المطارَد ووالد المطارَد، والد الفدائي الشهيد وصاحب البيت الذي هدمه الاحتلال ثلاث مرات بل يزيد، رحل عمر -أبو عاصف- تاركاً خلفه امرأة أوفت له العهد والقَسم، بكته حُباً وصبرت احتساباً، أم عاصف الأسيرة المحررة التي ما ذلّت يوماً، كان أبو عاصف يصفها في حضرتي "لولا الحبيبة ما ضحيت شيئاً لله وللوطن".. رحل تاركاً لنا إرث بطولة اسمها صالح وعاصم، إرث كرامة اسمها كوبر.
لا شك أن مصابنا برحيل "أبو عاصف" لهو مصاب جلل ويعيش الشعب الفلسطيني حالة فقد كبيرة بفقده لنموذج قوي وصلب ومفعم بالإرادة كأبي عاصف، ولكن العزاء الأبقى أن "أبو عاصف" لم يكن شخصاً فحسب، إنما هو مدرسة وفكرة خالدة، فكرة البطولة والتضحية والفداء، مدرسة في الوفاء للوطن حتى الأنفاس الأخيرة.
أبو عاصف مثّل حالة نضال فريدة، حيث جاد بالنفس والأبناء والزوجة والمال وسنين العمر فداء لقضية عادلة، لم يضرب به اليأس شيئاً، أبو عاصف بات أيقونة ثبات في أذهان الجيل الفلسطيني الشاب الذي تعلم من أبو عاصف كيف يقول لا في وجه الاحتلال وفي وجه الظلم والطغيان، تعلمنا منه أن الإقدام لا ينقصنا عُمراً وأن التضحية والثبات تزيدنا عُمراً بعد عُمر.
أبو عاصف الجبل الأشم كان أكثر الشخصيات الحانية على الجيل الفلسطيني، لهذا يبكيه الكبير والصغير والشبل والطفل، والمرأة والرجل، قضى نحبه وهو يعلمنا بكل أفعاله أن الوطن غالٍ و"مَن تواضع لله رفعه" وعزّ شأنه، فلسطين اليوم إذ تودع حبيبنا فقيدنا أبو عاصف فهي تؤمن بأن في الآلاف نموذج أبو عاصف، وأن أثره باقِ فينا حتى التحرير.
أبو عاصف لمن لا يعرفه، هو عمر صالح عبد الله البرغوثي، وُلد عام 1953، نشأ في عائلة عُرف عنها الصلاح الديني ومقاومة الاحتلال البريطاني، فوالده كان مقاتلاً شرساً وأسيراً لدى سلطة الانتداب، ورث بطولته عن آل البرغوثي المشهود لها بالبطولة في فلسطين، اعتقل على يد الاحتلال أكثر من 17 مرة، ومكث في سجونه نحو 28 عاماً، ضمن اعتقالات متكررة، إحداها حُكم عليه بالسجن المؤبد مدى الحياة، ومَنّ الله عليه بالإفراج ضمن صفقة تبادل أسرى مع الاحتلال، عايش أبونا أبو عاصف مطلع السبعينيات أول اعتقال له، وبعد تحرره انتقل الى بيروت والتحق بالمقاومة هناك، ثم عاد إلى مسقط رأسه كوبر ينظّم خلايا قتالية سريّة، يدربها على قتال العدو، حتى أضحى مطارَداً لدى الاحتلال.
كان أبو عاصف يؤمن بعقيدة الحرية، في إحدى المرات قال لي: "مجرد وجود الاحتلال يكفي الإنسان أن يقرر أن يقدم الغالي والنفيس للخلاص من الاحتلال، الإنسان يولد حرّاً والاستعباد والاحتلال مرفوضان، وعبر التاريخ القتال ضد الاستعمار موجود، ونحن لسنا طفرة، نحن امتداد لعائلة قاتلت الإنجليز، كان أخوالي وأعمامي منهم من استشهد على يد الإنجليز ومنهم من أُسر ومنهم من طورد، والدي وعمي قاتلا في ثورة البراق 1936".
على مدار سنوات الاعتقال تعرض البرغوثي للتعذيب الوحشي بكافة أشكاله، لكنه ظل صامداً يعلّم مَن يراه كيف تُصنع الرجال على عين الله وقوته، هو شقيق أقدم أسير في سجون الاحتلال نائل البرغوثي، وقدّم نجله عاصم فدائياً أسيراً في صفوف المقاومة، والذي أمضى 13 عاماً في سجون الاحتلال، وبعد عملية بطولية حُكم عليه بالسجن المؤبد، وقدم نجله صالح شهيداً ما زال الاحتلال الصهيوني يحتجز جثمانه كعقاب على عمليته الفدائية التي نفذها، واعتقل الاحتلال نجله الأصغر محمد الذي لم يكن يبلغ السبعة عشر عاماً آنذاك، واعتقل زوجته، وهدم منزله ثلاث مرات كعقاب جماعي على فعل المقاومة التي ظلّ البرغوثي يمارسها دون أن يطعن به العُمر ولا اليأس، لهذا فاز هو ونحن خسرناه، لهذا فلتبكه كل فلسطين.
ظلّ يعمل سرّاً في إعداد الجيل الشاب حتى كُشف أنه منظم خلايا مقاتلة تتبع كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس في الضفة الغربية المحتلة. ومن بين البطولات التي تُشهد لأبانا أبو عاصف أنه في أحد الاعتقالات، مكث 90 يوماً في التحقيق العسكري، وهو نوع من التحقيق يستخدم فيه الاحتلال كافة طرق التعذيب وإن وصل حد الموت، ولكنه ظل صامداً مستشعراً بمعيّة الله في كل أمر وحين، فمن وهب حياته لله لن يخذله الله.
ومن أقواله: "الظهور على سطح الأرض كالشجرة، يوازيه عمق في الأرض، ما دام نحن محتلين، الأصل أن تكون مقاومتنا سرية كأساس، وما يكون على سطح الأرض لا يكون أقوى من قوة الظهور على الأرض، ننمو فوق الأرض بقدر أقل من عمقنا الجذري".
"المقاومة رد فعل طبيعي على وجود الاحتلال، ودفعنا أثماناً باهظة كي لا نكون تحت بساطير الاحتلال".
أما عن زوجه، أم عاصف، فهي البيت وإن سمّيتها امرأة، هي الوطن وإن سمّيتها أمّاً، هي نموذج الصبر والاحتساب التي تشهده على المرأة الفلسطينية، كيف لا وهي مصنع الرجال وإعدادهم، هي مُخرجة الأسود الذين قارعوا العدوّ ولم ينَل منهم البتّة.
في إحدى المرات، لفتني حبهما لبعضهما، فوخزت الخالة أم عاصف وسألتها "كيف تزوجتما؟" فسردت لي "لما تقدملي أبو عاصف، حكالي "شوفي يا بنت الناس، أنا حدا عنيد، عندي الوطن أغلى إشي، سلاحي ما بفرط فيه، اعتقلت لما كان عمري 19 سنة، إني أترك هم القضية والبلد أمر مستحيل، بدك تقبليني زوج على السراء والضراء حياكِ الله، وإذا شايفة الأمر صعب عليكِ الله يوفقك"، ردت عليه أم عاصف: موافقة، معك ع الموت.. تزوجا وأنجبا عاصف وعاصم وإقبال وصالح ويافا ومحمد، كل اسم له قصة.. واليوم كانت الحبيبة في الوداع الأخير للحبيب واكتمال القصة "معك على الموت".
ختاماً.. لا يمكن للكلمات ولا السطور أن تتحدث عن 68 عاماً من حياة البرغوثي عُمر، ولا أن تصف كيف قضى نصف عمره في سجون الاحتلال طلباً للحرية "حرية الوطن وحرية الإنسان". لقد خصّ الله كوبر، واصطفى منها عُمراً، رحم الله فقيدنا أبا عاصف، والعزاء لفلسطين على هذا المصاب.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.