الاختلاف سنة كونية كبرى لا يمكن لعاقل إنكار وجودها أو التملص من مدى ترسخها بين البشر، إلا أن من معالم النزاهة في الاختلاف أن يلتزم المختلفون في قضية أو عدة قضايا بالمعايير الأخلاقية لهذه العملية في النقاش والسجال والاستدلال، لاسيما بين الأطراف المتضادة في الفكر أو في الخلفيات الثقافية. أما أن يلجأ هؤلاء المختلفون أو بعضهم للكذب والتلفيق لينصر رأيه أو يحاجج في جدال، فهذا ليس من شرف الخصومة على الإطلاق.
ملاحَظ أن بعض النخب المثقفة العربية ذات التوجه المنفتح على الغرب تلجأ الآن لحيلة مخادعة، بهدف العبث في الهوية الدينية والمحافِظة للمجتمعات العربية، ويستخدمون لذلك أسوأ طرق التدليس والتضليل وتزوير الحقائق التاريخية. نحن نتحدث هنا عن مستوى الوقائع التاريخية الثابتة التي لا تقبل جدلاً، لا عن أفكار أو تفسيرات يمكن فهمها بطرق مختلفة والتعبير عنها بطرق أخرى، وسأُدلل على ذلك بمثالين:
أولاً: في مصر مثلاً يتم التركيز في الوقت الحالي على نشر صورة المرأة المصرية في فترة الخمسينيات والستينيات والسبعينيات -على وجه الخصوص- بالملابس المتحررة والتنانير القصيرة، لترويج أن هذه المظاهر الاجتماعية وغيرها كانت هي الأصل في الأمة المصرية على مدار تاريخها، ومن ثوابت المجتمع قبل الغزو (الوهابي) لمصر، وتحوُّل مصر لوضعية (الحجاب العام)، حتى إذا غزاها هذا الاحتلال الاجتماعي والديني المزعوم غيّر وجهها وأزياء نسائها إلى وجه أكثر محافظة وتديُّناً!
هذا في مصر..
ثانياً: في السعودية تُمارَس اللعبة نفسها، بنشر مثل هذه الصور واستعادة الذكريات للمظاهر الاجتماعية المستثناة التي يبرع الكتاب والروائيون وصناع الدراما من ذوي الهوى والتوجه الغربي نفسه في روايتها وحكيها في الصحف ووسائل الإعلام والأعمال الدرامية السعودية، عن الانفتاح الاجتماعي، والاختلاط بين الجنسين في الجامعات، والعلاقات المفتوحة، وانتشار أغاني أم كلثوم وعبدالوهاب وعبدالحليم (وجميع المطربين العبادلة)، وبث الإذاعة السعودية لها في فترة السبعينيات وما بعدها، هذا الوضع الذي تحول فجأة هو الآخر إلى وضع جديد (مستورد) -ولا ندري مستورد من أين- هو وضعية (الحجاب العام) أيضاً فيما بعد؛ ليصير المجتمع محافظاً بصورة زائدة عن اللزوم، حسب رؤيتهم، والذي تتسارع الجهود الآن لإعادته إلى عهده السابق.. وهذا بالمناسبة صار الخطاب الرسمي للدولة، وتكرّر على لسان ولي العهد السعودي محمد بن سلمان أكثر من مرة.
سنُلاحظ هنا أن هناك حالة من التركيز على واقع المرأة على وجه الخصوص في هذه المرحلة، ومحاولة تصديره لفترات أخرى تالية، باعتبار المرأة وقضيتها مؤشراً لحالة المجتمع ككل، انطلاقاً من الفكرة التي عُبر عنها بمصطلح "التمركز حول الأنثى"، التي جعلت من المرأة قضية اجتماعية مركزية تدور كل قضايا المجتمع في فلكها.
التحليل:
هذه الفترات الزمنية القصيرة في التاريخ المعاصر لم تكن القاعدة المطَّردة في المجتمع، وإنما كانت الاستثناء القصير، لكن بعض النخب تتجاهل التاريخ قبلاً وبعداً، وتركز على حقبة زمنية ضيقة للغاية: (في مصر من ثورة 1952 تحديداً بعد زوال الملكية وبداية حكم جمال عبدالناصر، وحتى نهاية الثمانينيات)، وفي السعودية (عقد السبعينيات وما بعده)، وهي الفترة التي أعقبت وجوداً قيمياً دينياً عميقاً ومحافظاً وراسخاً على مدى قرون، يظهر في السلوك والمبادئ والأفكار، وحتى في المظهر، وهي كذلك الفترة التي حكمت فيها في مصر الطغمة الاشتراكية، التي روّجت لمثل هذه المبادئ في الإذاعات والإعلام والصحافة والدراما، ونجحت في طمس كثير من المعالم الاجتماعية الراسخة وتشويهها.
أما في السعودية، فهذه الفترة التي يتم إبرازها والترويج لها باعتبارها الأصل هي الفترة التي ظهر فيها التيار الليبرالي بقوة، في بداية فترة فراغ منصب مفتي السعودية، التي كانت منذ العام 1969م وحتى العام 1994م، والذي ألغى منصبه الملك فيصل بن عبدالعزيز وأحل محله وزارة العدل، بالإضافة إلى ضعف المؤسسات الدينية في المجتمع السعودي في ذلك الوقت، وتقدم التيار الشيوعي والماركسي العربي الذي كان منتشراً حينها في أكثر من دولة عربية، إضافة إلى عمليات ابتعاث الطلاب للدراسة في الدول الغربية، التي بدأت في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، والتي كانت السعودية بدأت تجني ثمارها في ذلك الوقت لأول مرة. وقد أفرزت هذه التحركات كثيراً من الرموز النخبوية والثقافية ذات الهوى الغربي، وبدأت تظهر في الصحافة والإعلام، وكان لها صوت وتأثير.
لذا فإن التركيز على هذه الحقبة الزمنية واعتبارها أصلاً اجتماعياً وسلوكياً وثقافياً وفكرياً، وأن ما جاء بعدها كان مجرد استثناء طارئ بفعل (تدين مستورد)؛ هو تضليل صريح للرأي العام، وتحايل على الحقائق الثابتة، وتشويه واضح للتاريخ الذي لا يقبل التأويل.
المفارقة هنا أن النخب المصرية تدّعي أن (وضعية الحجاب) -دعونا نعتبره مصطلحاً لهذه الحالة- وضعية دخيلة على المجتمع المصري ومستوردة من السعودية ومستنسخة مما يسمونه (التدين الوهابي)، في الوقت نفسه تدعي النخب السعودية أيضاً أن وضعهم الحالي وضع مستورد ومختلف عن الحالة التي كانت سائدة في المجتمع السعودي في ذلك الوقت، وأن تحركاتهم (التوعوية الحالية المتمثلة في تمكين هيئة الترفيه مثلاً من العبث في التركيبة الاجتماعية عبر الأنشطة والفعاليات والدراما والمسابقات) تهدف إلى مجرد العودة للوضع الطبيعي السابق لما يسمونه (تيار الصحوة الذي بلغ ذروته في التسعينيات والألفينيات).
الإحالة البسيطة لكتب التاريخ التي رسمت صورة المجتمعين المصري والسعودي قبل هذه الحقبة الزمنية القصيرة الآنفة الذكر ستمكننا بكل بساطة من استبانة الوضع الحقيقي لواقع الحياة حينها، بل إن العودة إلى الأفلام الوثائقية والدراما التي أنتجت عن هذه الفترة ستنبئنا إلى أي مدى وقعت المجتمعات الحالية فريسة لعملية تدليس وتضليل متعمدة عن حقبة تاريخية كاشفة عن الواقع الاجتماعي المحافظ لهذين المجتمعين الرائدين.
مقاطع مصورة:
مصر زمان – أيام الملك فؤاد – جولة في مصر سنة 1932
Daily Life in Egypt: Ancient and Modern, 1925 | From the Vaults
السعودية قديماً
مدينة الرياض عام 1386هجري – 1966 ميلادي
حياة المرأة السعودية قديماً
كتب ومراجع:
الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، د. محمد محمد حسين.
خمسون عاماً على ثورة 1919، أحمد عزت عبدالكريم.
تربية المرأة والحجاب، محمد طلعت حرب.
أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي، د. علي جريشة.
الطريق إلى مكة، محمد أسد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.