في 27 أكتوبر/تشرين الأول 2018 أطلق روبرت دي باورز، المُسلّح ببندقيةٍ وثلاثة مسدسات، النار على كنيس يهودي مطلقاً عبارات "ضد السامية" كما وصفتها صحيفة نيويورك تايمز، ما أسفر عن مقتل 11 من المصلّين اليهود وإصابة أربعة من ضباط الشرطة، لكن الشرطة ألقت القبض عليه في النهاية.
بعدها بأربعة أيام في 31 أكتوبر/تشرين الأول أقام مايك بنس- نائب الرئيس ترامب- فعالية حاشدة للصلاة على أرواح الضحايا، حضر فيها الحاخام لورين جاكوبس، مما أثار جدلاً واسعاً في الأوساط اليهودية في أمريكا، إذ يُعد جاكوبس من طائفة دينية تعتبر نفسها يهودية لكنها في الوقت ذاته ترى يسوع على أنه مسيح العهد القديم الموعود، وهو ما يتعارض كلياً مع العقيدة اليهودية، وتعرف هذه الطائفة باسم "اليهود المسيحانيون – Messianic Judaism".
اعتراضاً على إحضار مايك بنس لجاكوبس؛ أدان هالي سويفر- المدير التنفيذي للمجلس اليهودي الديمقراطي في أمريكا- قرار بنس قائلاً: "ما يسمى باليهود المسيحانيين ليسوا جزءاً من المجتمع اليهودي، لأنهم يتبنون وجهات نظر تعتبر مسيئة للغاية لليهودية".
اليهودية المسيحانية.. ومحاولة التوفيق بين دينين
طبقاً لرواية التحالف اليهودي المسيحاني في أمريكا؛ فمن قبل ألفي عام كان يسوع المسيح يهودياً يعيش بين الشعب اليهودي، وكان يُطلق عليه اسم "يشوع" وهي المرادف لكلمة "يسوع" في اللغة الآرامية والتي تعني أيضاً "المخلّص"، التي دُعي بها يسوع خلال فترة وجوده على الأرض.
حفظ ودرس يشوع- طبقاً للرواية- التوراة وهي شريعة موسى والمعروفة عند المسيحيين باسم "العهد القديم".
وعند موت وقيامة المسيح- حسب معتقداتهم- ازداد عدد أتباعه وأٌنشئت معابد يهودية مسيحانية في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية، وبذلك اعتبر اليهود المسيحانيون "يشوع/ يسوع" هو المسيح المرسل لخلاص إسرائيل والعالم بأسره الذي تحدثت عنه الشريعة اليهودية.
وبذلك حاولت اليهودية المسيحانية أن تمس الخط الفاصل بين اليهودية والمسيحية فآمنوا أنّ يسوع هو ابن الله وأنه مات كفارةً عن خطايا البشرية وآمنوا كذلك أنّ اليهود هم الشعب المختار، وأن الشرائع في التوراة مثل الاحتفال بيوم السبت، والأعياد اليهودية مثل عيد الفصح، والختان وعدم تناول لحم الخنزير وغيرها من الشرائع واجبة التنفيذ.
بالنسبة للكثيرين، يبدو هذا تناقضاً صارخاً؛ فبسبب ارتباط اليهودية المسيحانية بيسوع، رفضت جميع الطوائف الرئيسية في اليهودية طائفة اليهودية المسيحانية باعتبارها شكلاً من أشكال اليهودية.
أما عن الطوائف المسيحية، فيُنظر إلى اليهودية المسيحانية على أنها مجموعة دينية داخل المجتمع الإنجيلي، وفي بعض الأحيان يُنظر إليها على أنها طائفة منفصلة عن المسيحية، وهو ما جعل العديد من القادة المسيحيين ينتقدون علناً اليهود المسيحانيين.
ماهية المسيح عند اليهود
وفي محاولة لشرح التناقض الحاصل بين العقيدة اليهودية والمعتقد اليهودي المسيحاني؛ تقول الدكتورة إنجريد أندرسون المتخصصة في الدراسات اليهودية في جامعة بوسطن الأمريكية؛ إنه وفقاً لكلٍّ من الكتاب المقدّس العبري (التوراة) والتقاليد الشفوية اليهودية، فإن المسيح هو ملكٌ أو مُحارب أو شخصية سياسية يؤدي مهمة "إلهية – أي مقدسة" ومخصصة لليهود، وهذا القائد في المعتقد اليهودي ليس إلهاً ولا منقذاً يهتم بالحياة الآخرة للبشرية. لذا لا يُعبد المسيح- بمفهومه اليهودي- كإله.
أما عن وظيفة هذا القائد، فتستكمل الدكتورة أندرسون توضيحها أن مهمته هي تسهيل عودة اليهود إلى "أرض إسرائيل" وخلاصهم من البطش في الدنيا، وليس خلاصهم في الآخرة. لذلك فإن الفداء لا يعني التكفير عن الخطايا، بل هو التحرر من السبي والعودة إلى الحكم الذاتي في إسرائيل.
وطبقاً للمفهوم اليهودي؛ لا يحتاج المرء إلى أن يكون يهودياً ليكون مسيحاً، فيُشار مثلاً إلى الملك الفارسي "قورش" باسم "المسيح" في الكتاب المقدس العبري لأنَّه سمح لليهود بالعودة إلى أرض إسرائيل، مما يشير إلى نهاية ما يعرف بالسبي البابلي في القرن السادس قبل الميلاد. ولم يكن قورش هو الشخص الوحيد الذي يُدعى بـ"المسيح" بل هناك آخرون غيره.
أما عن معتقدات الطوائف اليهودية الأربع الحالية عن ظهور المسيح، فلا تتفق الطوائف المعاصرة على متى أو ما إذا كان سيظهر المسيح على الإطلاق، لا سيما تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين عام 1948. ويرجع ذلك في جزءٍ كبير منه إلى الوظيفة التقليدية في الأدبيات اليهودية للمسيح – وهو استعادة الدولة اليهودية – والذي تم إنجازه بالفعل بوجود إسرائيل، إلا أن بعض اليهود يعتقدون أن المسيح سيأتي، لكن العلامات التي كانت ستُنبئ بقدومه لم تظهر بعد.
ولذلك فإن تعريف المسيحيّة لطبيعة ودور المسيح هو أهم نقطة- في رأي أندرسون- التي ساهمت في الكثير من التوتر بين اليهود والمسيحيين تاريخياً، إذ لا يشترك اليهود في الاعتقاد المسيحي بأنّ يسوع كان إلهاً وأنه لا يمكن أن يكون الإله إنساناً أبداً فضلاً عن أن يكون يسوع هو المسيح، وبهذا جمعت عقيدة اليهود المسيحانيين بين كل هذه المتناقضات جميعها في قالب عقدي واحد.
انتشار اليهودية المسيحانية رغم عدم تماسكها
على الرغم من أن هناك ما يقدر بـ175 ألفاً إلى 250 ألف يهودي مسيحاني في أمريكا وحدها إضافةً إلى 350 ألفاً في جميع أنحاء العالم في عام 2012 وفقاً لذي أتلانتك.
بينما يُقدر التحالف اليهودي المسيحاني في أمريكا عدد المسيحانيين في أمريكا بـ1.2 مليون، وهناك ما يقدر بنحو 400 تجمع يهودي مسيحي في جميع أنحاء العالم، إلا أنهم أقلية في إسرائيل- فقط من 10 آلاف إلى 20 ألف شخص وفقاً لأرقام ذي أتلانتك- لكن أعدادهم في تزايد.
وفي أمريكا هم كذلك في تزايد؛ فوفقاً لدراسة أجراها مركز بيو للأبحاث عام 2013، تقول إنّ أكثر من ثلث اليهود في الولايات المتحدة قالوا: "إن الاعتقاد بأن يسوع هو المسيح المنتظر يتوافق مع اليهودية".
أما عالمياً فإن اليهود المسيحانيين يؤمنون أن الكتاب المقدس يتنبأ بأن خطة الله هي أن يعود يسوع إلى أورشليم، أي القدس، وينتصر في معركة نهاية العالم، ويحكم العالم من جبل الهيكل، ويرون أن هذا هو استعادة "إسرائيل الحقيقية" والتي لن تحدث إلا بعودة إيمان اليهود بالمسيح، ولذلك يسعى المسيحانيون إلى جعل باقي اليهود يؤمنون بيسوع مع الاستمرار في الحفاظ على التجمعات التي تُعرف على أنها يهودية وتلتزم بالعادات والأعياد اليهودية.
ويُعد التحالف اليهودي المسيحي في أمريكا؛ المؤسس في عام 1915 أكبر منظمة تمثل المجتمع اليهودي المسيحي في العالم اليوم، كما تنظم تحالفاً مع منظمات مسيحانية أخرى في 15 دولة حول العالم، بما في ذلك إسرائيل. كما يدير التحالف المعابد اليهودية المستقلة داخل وخارج الولايات المتحدة.
المسيحانيون في إسرائيل
وفي إسرائيل يقوم المسيحانيون بالتبشير مما يضعهم في موقف معادٍ للحكومة الإسرائيلية. كما تهاجمهم الجماعات اليهودية المختلفة التي تُصور اليهودية المسيحانية على أنها عبادة تُهدد الهوية اليهودية لإسرائيل، ويتهمون المسيحانيين كذلك باستغلال الشباب الإسرائيليين العلمانيين المهاجرين وغيرهم ممن ليس لديهم اتصال كافٍ بيهوديتهم لإقناعهم بمعتقداتهم.
مع ذلك يخدم معظم المسيحانيين في جيش الاحتلال الإسرائيلي، كما يقارنون تفانيهم وإخلاصهم لإسرائيل مقابل اليهود الأرثوذكس المتطرفين الذين يتم إعفاؤهم من الخدمة العسكرية بسبب تشددهم الديني.
والعديد من المسيحانيين في إسرائيل هم من مواطني إسرائيل الذين اعتنقوا اليهودية المسيحية في سن المراهقة. أما عن اعتبارهم كمواطنين، ففي حكمٍ أصدرته المحكمة العليا الإسرائيلية في عام 1989، لم يُسمح للمسيحانيين بالمواطنة من خلال "قانون العودة" لأنه كان هناك شرط في القانون ألا تُمنح المواطنة الإسرائيلية على إثره لأولئك الذين كانوا يهوداً وارتدُّوا طواعية خارج الدين اليهودي واعتنقوا عقيدة أخرى غير اليهودية.
ومع ذلك قضت المحكمة العليا في عام 2008 في تحول قانوني أنه نظراً لأن قانون العودة يُمنح لأي شخص لديه جد يهودي واحد، فإن المسيحانيين الذين لا يُعتبرون يهوداً بشكلٍ شرعي- أي أن والدتهم ليست يهودية كما تنص الشريعة اليهودية والقانون الإسرائيلي- يمكن منحهم الجنسية عبر قانون العودة.
وبهذا يُشكل اليهود المسيحانيون حجر عثرة وعقبة كبرى ليس أمام الديانة اليهودية ومعتقداتها بل أيضاً أمام إسرائيل، ليس بسبب قوتهم التنظيمية التي يعملون على زيادتها عبر تحالفاتهم، ولكن أيضاً وبشكل أساسي لعقيدتهم التي تتناقض مع ما تؤمن به الطوائف اليهودية الرئيسية الكبرى، بالإضافة إلى كونهم جزءاً لا يتجزأ من المجتمع اليهودي لا سيما إسرائيل، وهو ما يستقطب الشباب لعقيدتهم.