على مدار أكثر من قرنين، حكمت الإمبراطورية الفارسية العالم المُحيط بحوض البحر المتوسط. وبصفتها من أوائل القوى العظمى الحقيقية في التاريخ، امتدت الإمبراطورية الفارسية من حدود الهند، نزولاً إلى مصر، ووصولاً إلى حدود اليونان الشمالية. لكن حكم بلاد فارس بصفتها إمبراطوريةً مُهيمنة، كان مقدراً له أن ينتهي على يد الاستراتيجي السياسي والعسكري البارع، الإسكندر الأكبر، والذي كان مقدراً له أن يهزمه مرض مجهول أنهى أمجاده العسكرية ولكن ليس قبل أن يغير وجه التاريخ للأبد.
إذ وُلِدَ الإسكندر الثالث عام 356 قبل الميلاد بمملكة مقدونيا الصغيرة. وتلقى تعليمه في شبابه على يد أرسطو، في حين درّبه والده فيليب الثاني على المعارك، لينشأ الإسكندر الأكبر ويصبح شخصيةً استعمارية قوية.
ويُنظَر إلى هزيمته لملك الفرس داريوس بعددٍ أقل من الرجال، في معركة غوغميلا، على أنّها من نقاط التحوّل الحاسمة بالتاريخ البشري، حيث أطاح بالفرس من مقعد القوة العظمى في العالم القديم ونشر الثقافة الهلنستية بطول وعرض إمبراطورية شاسعة جديدة.
ويدين الإسكندر بالكثير لوالده الذي ترك له جيشاً من الطراز العالمي بقيادة جنرالات متمرسين ومخلصين، حسب ما نشره موقع History البريطاني.
لكن عبقرية الإسكندر كقائد واستراتيجي في أرض المعركة، هي التي ضمِنت انتصاره على خصمٍ مهيب في عمق أراضي العدو.
فيليب الثاني ترك جيشاً شرساً للإسكندر الأكبر
لم يكُن الفرس هم القوة التي لا يُستهان بها دائماً، إذ كانت لليونانيين مراكز قوة تاريخية في دول المدن مثل أثينا، وأسبرطة، وثيفا في الجنوب، وقد اعتبر زعماء تلك المدن أنّ المقدونيين من البرابرة.
لكن والد الإسكندر، فيليب، هو من اضطلع بمفرده بتحويل الجيش المقدوني إلى واحدٍ من أكثر آلات الحرب المرهوبة في العالم القديم.
إذ أعاد فيليب تنظيم المجتمع المقدوني بأكمله حول جيش محترف، وشكّل قوات قتالية من النخبة للمشاة وسلاح الفرسان والرماة. وكان الشباب الأرستقراطي يبدأ تدريبه العسكري في السابعة، ليتخرجوا ضباطاً في سن الـ18.
وكانت أعلى المناصب هي سلاح الفرسان الملكي المرافق، وهم الحرس الشخصي للملك، أو فرقة المشاة الملكية التي كانت تضم 500 من نخبة المقاتلين الذين يُحيطون بالملك في أرض المعركة.
وبفضل الجيش الجديد اللامع، تقدّم فيليب جنوباً عام 338 قبل الميلاد وهزم التحالف القوي لأثينا وثيفا في معركة خيرونيا. وكانت تلك المعركة بمثابة حفلة بلوغ للإسكندر في الـ18 من عُمره، حيث قاد هجوم سلاح الفرسان المقدوني بشجاعة، ليخترق الصفوف الأثينية ويضمن النصر للمملكة الناشئة.
وبعد إخضاع البر الرئيسي لليونان تحت الحكم المقدوني، حوّل فيليب أنظار جيشه المجهّز جيداً شرقاً صوب الإمبراطورية الفارسية.
ولكن بعد فترةٍ وجيزة من عبوره مضيق الدردنيل إلى أراضي الفرس، تعرّض فيليب للاغتيال وصار الإسكندر الصغير الملك الجديد والقائد العام للقوات المقدونية.
ويقول غراهام رايتسون، أستاذ التاريخ في جامعة ولاية داكوتا الجنوبية: "بمجرد تولّي الإسكندر السلطة، أعلن صراحةً أنّه سيُواصل تنفيذ خطط والده".
ولكن قبل أن يتمكّن الإسكندر من الزحف إلى بلاد فارس، كان عليه الاهتمام ببعض الأمور على أرض الوطن أولاً.
إذ لم تكُن أثينا وثيفا سعيدتين بخضوعهما لسيطرة الملوك "البرابرة"، خاصةً بعد انتهاكهما للمبادئ الديمقراطية، وبمجرد صعود الإسكندر إلى العرش، انتفضت ثيفا ضد سلطته، في خطأ فادح.
لم ينتهِ الأمر بسحق الجيش المقدوني بكل سهولة لتمرد ثيفا، "بل أحرق الإسكندر ثيفا بالكامل وباع المدينة بأكملها للعبودية، باستثناء بيتٍ واحد كان مملوكاً لأحفاد شاعره المفضل"، حسب موسوعة Britannica.
الإسكندر الأكبر استخدم الحملات السياسية لحكم اليونان
لأنّه كان خبيراً استراتيجياً محنّكاً على الدوام، فقد أدرك الإسكندر الأكبر أنّه لا يستطيع حكم البر الرئيسي لليونان بنشر الخوف والقوة العسكرية الغاشمة فقط. لذا وأثناء إعادة تركيزه على بلاد فارس، صاغ الإسكندر حملته ضد الإمبراطورية الفارسية على أنّها انتقامٌ وطني من غزو الفرس الفاشل للبر الرئيسي اليوناني قبل قرنٍ من الزمان.
وحينها تضمّن ذلك النزاع معركة ترموبيل الشهيرة، التي شهدت مواجهةً بطولية بين 300 من الأسبرطيين وعشرات الآلاف من الغزاة الفرس.، والتي تم تجسيدها بشكل درامي في فيلم 300.
وسواء كان دافعه هو الفخر اليوناني أو غنائم الغزو الإمبراطوري، سار الإسكندر على خطى والده وتقدم صوب فارس عام 334 قبل الميلاد، حيث كان جيشه المؤلف من 50 ألف جندي، سيتعرض لاختبار في مواجهة القوة القتالية الأكبر والأفضل تدريباً بالعالم آنذاك.
وتُشير التقديرات إلى أنّ الملك داريوس الثالث، ملك بلاد فارس، كان يقود جيشاً قوامه 2.5 مليون جندي منتشرين بأرجاء مملكته الشاسعة. وفي قلب الجيش الفارسي كانت هناك فرقة "الخالدون Immortals"، وهم مقاتلون من نخبة المشاة قوامهم 10 آلاف جندي ولم تتغيّر أعدادهم مطلقاً.
وحين يموت رجل، كان يظهر آخر ليحل محله. كذلك كان رماة الفرس الأسطوريون، كما هو الحال مع عربات المنجل التي كانت تقطع صفوف مشاة العدو بعجلاتها حادة الأطراف على الجانبين.
الإمبراطورية الفارسية كانت في حالة تراجع بالفعل
كانت هناك مؤشرات أخرى على بدء تراجع إمبراطورية الفرس. فبعد هزائمها المهينة المتتالية داخل اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد، توقّفت بلاد فارس عن التوسع.
وفي القرن الذي سبق حكم الإسكندر الأكبر، ازدادت بلاد فارس ضعفاً بسبب الحرب الأهلية وغيرها من الثورات الداخلية. وكان داريوس ما يزال القائد على جيشٍ ضخم، لكن بلاد فارس كانت تتراجع على الساحة العالمية بينما كانت مقدونيا تتمتّع بزخم القوة العسكرية العظمى الصاعدة.
وبعد إرسال جيش إقليمي صغير سريعاً بالقرب من بلدة غرانيكوس، تعرّض الإسكندر لأوّل اختبار حقيقي ضد داريوس والجيش الملكي لفارس بالقرب من مدينة إسوس.
اعتمدت استراتيجية داريوس على قطع خطوط إمداد الإسكندر من الخلف وإجبار القوات المقدونية على الالتفاف لمواجهته. لكن داريوس لم يُفلح في اختيار الموقع المناسب للظمعركة، التي دارت داخل شريطٍ ضيق من الأرض يمتد من الجبل إلى البحر، مما جعل أعداد قواته الكبيرة بلا قيمة.
وفي إسوس، أظهر الإسكندر استراتيجيته القتالية للمرة الأولى، حتى تضمن له نصراً تلو الآخر خلال فترة حكمه البارزة.
ولإدراكه أنّ داريوس ستكون له اليد العليا من ناحية القوة البشرية، قرّر الإسكندر الاعتماد على السرعة والتشتيت. إذ كان يجذب جنود العدو ناحية أحد الجناحين، ثم ينتظر ظهور فجوةٍ مؤقتة في قلب جيش العدو ليشن هجوماً بسلاح الفرسان.
وكما فعل مع والده في خيرونيا، قاد الإسكندر سلاح الفرسان المقدوني شخصياً في إسوس، ليقطع قلب الدفاعات الفارسية وفقاً للخطة. وحسبما ورد فإنّ داريوس المصدوم امتطى حصانه وفرّ هارباً مع من تبقى من جيشه وراءه.
ولم يلتق الجيشان مرة أخرى طيلة عامين. وفي غضون ذلك، أعاد داريوس تنظيم صفوفه وطلب إمدادات من الشرق، بينما تقدم الإسكندر بجيشه جنوباً نحو مصر. وحين عاد الإسكندر إلى بلاد فارس من فتوحاته المصرية، حاول داريوس تأخير الاشتباك المحتوم لأطول فترةٍ ممكنة، ليقرر في النهاية أن مباراة العودة -إن حدثت- ستكون بشروط داريوس.
واختار داريوس وجنرالاته موقع معركة بالقرب من غوغميلا. وكان وادياً واسعاً ومنبسطاً بخلاف إسوس، مما سيسمح للفرس بالاستفادة من أفضليتهم العددية بالكامل، إذ وصلت أعداد الجنود الفرس إلى نحو 250 ألف جندي في مواجهة قوات الإسكندر التي وصلت إلى 50 ألف جندي.
خطة معركة الإسكندر الأكبر المعقدة
لكن الإسكندر كان قائداً محنّكاً لا يسهل التحايل عليه. إذ خيّم بالجيش المقدوني فوق التلال أعلى ساحة المعركة؛ من أجل الراحة والتزوّد بالمؤن أثناء وضع خطة القتال. بينما ظلّ الفرس في حالة استعداد قتالي طوال الوقت خشية هجومٍ ليلي، وانتظروا بقلقٍ ذلك الهجوم الذي لم يحدث قط.
وعند الفجر، سيطر المقدونيون على ساحة المعركة. وبحسب استراتيجيته، تقدّم جيش الإسكندر في خطٍّ واحد تراجعت أجنحته إلى الخلف داخل تشكيلٍ عسكري يُشبه القوس. ثم أمر الخط المقدوني بأكمله بأن يندفع في اتجاه الميمنة سريعاً.
فأرسل داريوس خمسة آلاف من نخبة الفرسان لديه في ذلك الاتجاه؛ خشية أن يخسر الجناح الأيسر. فردّ الإسكندر بهجومٍ مضاد تضمّن 1.500 جندي من المرتزقة المكلّفين بحماية الميمنة. وأُصيب داريوس بالإحباط نتيجة عدم إحراز تقدّم، فأرسل 10 آلاف فارس آخرين كانوا يُمثّلون الشطر الأعظم من جناحه الأيسر.
فردّ الإسكندر بما يُعرف باسم "أضحية البيادق" التي تتألّف من بضعة آلاف مقاتل، كان مصيرهم الموت، من أجل تهيئة الساحة للهجوم النهائي.
وفي هذه المرحلة، أمر داريوس بهجومٍ كامل على ما تبقى من الجيش المقدوني، لكن أوامره استغرقت وقتاً قبل أن تصل للجناح الأيسر، مما خلّق وقتاً كافياً من التخبّط في الخط الفارسي سمح للإسكندر بأن يضرب.
وقال رايتسون: "بمجرد أن بدأ داريوس الهجوم، شنّ المقدونيون هجوماً مدمراً بسلاح الفرسان في قلب الفجوة التي أحدثتها تكتيكات الإسكندر".
وتسابق الإسكندر ونخبة سلاح الفرسان الملكي المرافق نحو قلب الدفاعات الفارسية، وأحاط بهم العدو للحظات، لكن فرق الساريسا المقدونية المخضرمة حاربت لدحر العدو واجتيازه.
ووفقاً للأسطورة، قتل الإسكندر سائق عربة داريوس وكاد يأسر الملك الفارسي، قبل أن يفر الأخير من جديد على ظهر حصانه.
وبعد أيام من مطاردة فرسان الإسكندر له، قُتِلَ داريوس على يد ابن عمه الذي بعث برأس الملك الذي سقط إلى الإسكندر كجزية. وأثارت تلك الخيانة حفيظة الإسكندر، الذي عذّب الرجل وأعدمه قبل أن يُعلِن نفسه ملكاً بلا منازع، على مقدونيا واليونان وفارس.
نهاية الإسكندر
في عام 327 قبل الميلاد، ومع إحكام السيطرة على الإمبراطورية الفارسية، حوّل الإسكندر الأكبر طموحه الاستعماري نحو الهند، حسب ما نشره موقع أكاديمية خان Khan Academy.
وبالفعل، حقق بعض الانتصارات قبل وصوله إلى نهر الجانج، الذي كان ينوي عبوره لغزو مزيد من الأراضي.
ومع ذلك، تمردت قواته المنهكة ورفضت الذهاب لأبعد من ذلك. وبعد ذلك بوقت قصير، مع عودة القوات إلى ديارهم، توفي الإسكندر عام 323 قبل الميلاد فجأة، على الأرجح بسبب المرض.
كان موت الإسكندر مفاجئاً، لدرجة أنه عندما وصلت أنباء وفاته إلى اليونان، لم يتم تصديقها على الفور، ولم يكن للإسكندر وريث واضح أو شرعي، لأن ابنه ألكسندر الرابع وُلد بعد وفاته بقليل.